
انتفاضة الحجارة : درس الصمود الفلسطيني وإرادة الشعب في مواجهة التحديات الراهنة ، بقلم : محمد التاج
قبل ثمان وثلاثين عاما، اندلعت في فلسطين انتفاضة الحجارة، لحظة فاصلة في التاريخ الوطني، لم تكن مجرد تصعيد شعبي عابر، بل تجربة جماعية صاغها الشعب الفلسطيني بقدميه ويديه وصدوره، ليكتب نصه الخاص في وجه الاحتلال. في شوارع المدن والقرى، وفي الأزقة الضيقة والمخيمات المكتظة، وقف الفلسطينيون وجها لوجه أمام آلة احتلال مدججة بالسلاح والقوة، ليحولوا الألم اليومي إلى فعل واعٍ، والصمت المروي في البيوت إلى صوت الجماهير.
الحجارة التي حملها الشباب والنساء والأطفال لم تكن مجرد أدوات مواجهة، بل رموز صامتة للكرامة والإصرار على الحق. كل حجر رُمي كان إعلانا أن الأرض والهوية لا تقهر، وأن الشعب هو من يملك كلمة الفصل في صياغة مصيره، لا الاحتلال ولا أي قوة خارجية تحاول أن تفرض واقعا قسريا. لقد كانت الانتفاضة فعلا جماعيا فريدا، أعاد تعريف المقاومة، وعلمت الأجيال أن الحق يفرض نفسه حين يقف الشعب صفا واحدا، وأن الإرادة الشعبية أكبر من كل أسوار الاحتلال.
استحضار هذه الذكرى اليوم لا يقتصر على التذكر، بل هو درس مستمر في الصمود والإبداع السياسي. فالتحديات الراهنة – من اقتحامات واعتقالات وحصار متواصل – امتداد لما واجهه الشعب الفلسطيني آنذاك، لكنها أيضا فرصة لتأكيد أن إرادة الشعب هي العامل الحاسم في مواجهة الظلم والاغتصاب اليومي للحقوق. كل جيل جديد مطالب بتحويل كلمته إلى فعل، والفعل إلى موقف، والموقف إلى مشروع للحفاظ على الهوية والكرامة.
لقد علمتنا الانتفاضة أن القوة ليست في السلاح وحده، بل في وعي الشعب وقدرته على الصمود والتحول إلى فعل جماعي. الحجارة كانت لغة مقاومة غير تقليدية، لكنها أعادت صياغة المعادلات.. عندما يختار الإنسان أن يقف في وجه الظلم، يتحول الفعل البسيط إلى رسالة قوية، والفرد إلى جماعة، والشوارع إلى ساحات إعلان للحقوق المسلوبة. وهكذا، تعلم الشعب أن المقاومة لا تقاس بعدد الأسلحة، بل بمدى تمسكه بمبادئه وثباته على حقه.
وفي ظل الظروف الراهنة، تصبح هذه الدروس أكثر أهمية.. الشعب الفلسطيني اليوم يحتاج إلى إعادة إنتاج روح الانتفاضة، بوسائل جديدة تتلاءم مع العصر الحديث، دون أن يفقد صوته الجماعي وفعله المباشر. فالاحتلال لم يتغير، لكن أدوات المقاومة تتغير، ووعي الشعب هو الثابت الذي يمكن الاعتماد عليه في كل المراحل. كل حجر رُمي، وكل صرخة أطلقت، هي درس في القدرة على قول الكلمة وتحويلها إلى فعل، وفي الثبات أمام القهر والاعتداء.
إن الانتفاضة لم تكن مجرد مواجهة فيزيائية، بل ثورة للوعي الفلسطيني، لقد أعادت تشكيل تصور الشعب لنفسه، ووضعت قاعدة جديدة.. أن الحرية ليست أُمنية تمنح، بل فعل يومي يمارس بالإرادة الجماعية. كل جيل تعلم أن الإرادة الشعبية، حين تصنع نفسها بإيمان ووعي، تصبح أكبر من كل الجدران والأسوار والأسلحة، وتستعيد قدرة الشعب على كتابة التاريخ بأيدي أبنائه، لا بانتظار اعتراف من الخارج.
استحضار مشاهد الانتفاضة في مخيلة الفلسطيني اليوم يحث على المقاومة الحية والمتجددة.. الأطفال يحملون الحجارة بعزم رغم الخوف، والنساء يحمين شبابهن كما تحمي الأرض بذورها، والشيوخ يراقبون بصمت تاريخا يُكتب أمام أعينهم. هذه الصور ليست مجرد ذكرى، بل رموز حية لإبداع الشعب في مواجهة الظلم والاحتلال، وتأكيد على أن الشعب هو رأس الحربة في صراعه من أجل الحرية وفاعل التاريخ الذي لا يهدأ.
واليوم، في ظل محاولات الاحتلال تهويد الأرض وسلب الحقوق، تبدو انتفاضة الحجارة درسا حيا للأجيال الجديدة.. أن المقاومة ليست فعلا لحظيا، بل إرادة مستمرة تتجدد مع كل تحد جديد. الشعب الفلسطيني حين ينهض، لا يسقط ولا يختفي، بل يكتب نصه التاريخي بنفسه، مهما طال الزمن ومهما اشتد الظلم. الحجارة التي رُميت آنذاك لم تكن أدوات، بل رموز لكرامة شعب لن يرضى بأن يُسلب حقه، وأن صموده هو الفعل الأسمى في مواجهة الاحتلال.
وهكذا تبقى انتفاضة الحجارة إرثا حيا، ليس للذكرى وحسب، بل لإعادة بناء وعي الشعب وتمكينه من مواجهة المرحلة الراهنة، لتكون مصدر إلهام لكل الفلسطينيين في صمودهم وصراعاتهم اليومية، وتذكيرا دائما بأن القوة الحقيقية تكمن في الشعب ذاته، وأن الحرية ليست أُمنية تُنتظر، بل حق يُنتزع بالإرادة والفعل والشجاعة الجماعية.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .