11:39 صباحًا / 28 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

بين أتمتة التعلم والتفكير ، تشريح في العلاقة البشرية ، بقلم : نسيم قبها

بين أتمتة التعلم والتفكير : تشريح في العلاقة البشرية ، بقلم : نسيم قبها


في معترك انفتاح المعرفة وفجر ثورتها وبموازاة ذلك ، فقد شكلت الأتمتة قوة دافعة للتقدم البشري، لكن ما نشهده اليوم هو تحول جوهري في هذه الظاهرة. لقد انتقلنا من “الأتمتة التنفيذية” التي تستبدل الجهد البدني، إلى “الأتمتة المعرفية” و”أتمتة التعليم” التي تستبدل العمليات الفكرية وتبدّل جوهر العملية التعليمية ذاتها.

تشهد ساحات المعرفة والتعليم اليوم غزواً صامتاً من قبل ما يسمى “الذكاء الاصطناعي التوليدي” الذي لا يقتصر على تنفيذ المهام، بل ينتج أفكاراً ومحتوىً وإبداعاتٍ، ويصمم مناهج تعليمية شخصية، كانت حتى الأمس القريب حكراً على العقل البشري والمؤسسات التعليمية. لقد أصبحنا أمام “انقلاب معرفي وتعليمي” تتحول فيه الأدوات من مساعدين إلى منافسين في أقدس مقدساتنا الإنسانية: الفكر والإبداع والتعلم.

تشريح الثورة المعرفية والتعليمية

في قلب هذه الثورة، تقف تقنيات متقدمة مثل “التعلم العميق” و”الشبكات العصبية التوليدية” و”المعالجة اللغوية الطبيعية”. هذه التقنيات لا تتبع تعليمات مبرمجة مسبقاً فحسب، بل تتعلم من البيانات وتتكيف وتتطور، مكونة ما يشبه “الحدس الاصطناعي” الذي بات يغزو الفصول الدراسية الافتراضية والواقعية.

إن “نماذج اللغة الكبيرة” التي تقف خلف العديد من أدوات الذكاء الاصطناعي اليوم تمثل نقلة نوعية في علاقتنا مع المعرفة والتعليم. فهي لا تخزن المعلومات فحسب، بل تفهم السياق وتولد ردوداً متماسكة، وتؤلف نصوصاً إبداعية، وتصمم أنظمة تعليمية مخصصة، بل وتحلل مشاعر الطلاب وتتنبأ بمساراتهم التعليمية.

الهاوية الوجودية: عندما تتوقف عن التفكير والتعلم

هنا تكمن الخطورة الحقيقية لأتمتة المعرفة والتعليم. فبينما كانت الأتمتة التقليدية تحررنا من الأعمال الروتينية لنتفرغ للأعمال الفكرية، تأتي الأتمتة المعرفية والتعليمية لتهدد هذه الأعمال الفكرية نفسها. إنها تطرح أسئلة وجودية عميقة: ماذا يتبقى منا عندما تتولى الآلات التفكير نيابة عننا، وعندما تصبح هي المعلم والمتعلم في آن واحد؟

لقد بدأنا نلاحظ بالفعل مظاهر “الضمور المعرفي والتربوي” بين مستخدمي هذه التقنيات. فنحن نتخلى تدريجياً عن مهارات التفكير النقدي، والتحليل العميق، وحتى الإبداع الشخصي، مستسلمين لراحة الحلول الجاهزة التي تقدمها الخوارزميات. إنه “إغراء الكسل الفكري والتعليمي” الذي يهدد بترويض عقولنا وتدجين فضولنا.

التوازن في عصر الآلات المفكرة والمعلمة

لكن رغم هذه التحديات، لا يجب أن ننظر إلى أتمتة المعرفة والتعليم كعدو وجودي، بل كتحدٍ حضاري يتطلب منا إعادة تعريف دورنا في هذا المشهد الجديد. علينا أن نتحول من مستهلكين للمعرفة الآلية إلى “مهندسي تفكير” و”معلمين فلسفيين” يوجهون هذه التقنيات دون الاستسلام لها.

المفتاح يكمن في تطوير “الذكاء التكاملي” الذي يجمع بين القوة الحسابية الهائلة للآلات والوعي الإنساني الفريد. يجب أن نركز على تنمية المهارات التي تبقى اختصاصاً بشرياً خالصاً: التفكير النقدي، الإبداع الأصيل، الحكمة الأخلاقية، والوعي الذاتي.

إلى مستقبل التعايش المعرفي والتعليمي

إن أتمتة المعرفة والتعليم ليست نهاية الفكر البشري، لكنها تحول جذري في بيئته. مثلما غيرت الطباعة علاقتنا مع النص، ستغير هذه الثورة علاقتنا مع الفكر والتعلم نفسه. التحدي الحقيقي ليس في إيقاف هذا التقدم، بل في تأكيد هويتنا و ذاتنا داخله.

علينا أن نتبنى دور “القائد الفيلسوف” و”المعلم الحكيم” في هذه الرحلة التكنولوجية، نوجه التقدم دون كبحه، ونحافظ على إنسانيتنا دون خوف من المستقبل. فالحل ليس في رفض الآلات المفكرة والمعلمة، بل في أن نصبح نحن أكثر عمقاً في تفكيرنا، أكثر إبداعاً في حلولنا، وأكثر حكمة في توظيفنا لهذه التقنيات.

في النهاية، قد تكون أعظم هدايا هذه الثورة أنها تجبرنا على إعادة اكتشاف ما يعنيه حقاً أن تكون إنساناً يفكر ويتعلم، في عالم تتعلم فيه الآلات كيف تفكر وتعلم أيضاً.

  • – نسيم قبها – باحث في الشأن التربوي – الإئتلاف التربوي الفلسطيني

شاهد أيضاً

مستوطنون يهاجمون رعاة الأغنام في مخماس شمال القدس المحتلة

مستوطنون يهاجمون رعاة الأغنام في مخماس شمال القدس المحتلة

شفا – هاجم مستوطنون، اليوم الجمعة، رعاة الأغنام في قرية مخماس شمال شرق القدس المحتلة. …