9:45 مساءً / 27 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

سوق المتعة ، بين مازوخية الجسد وانتفاضة الروح ، بقلم : نور فهمي

سوق المتعة ، بين مازوخية الجسد وانتفاضة الروح

سوق المتعة ، بين مازوخية الجسد وانتفاضة الروح ، بقلم : نور فهمي

هل يمكن أن يستغنى الإنسان بنعيم الملذات الحسية عن جوهر وجوده..عن آدميته..عن فضوله الفطري تجاه الأشياء والأشخاص والأحداث؟!
تخيل أن السجن الذى يهرب منه الجميع..يُصبح رحما يؤويك، وملاذا ولذة أبدية تبتغيها!
الضرب يضحى مُسكّنا لآلامك، والتعبير عن الحب يجد سبيله بالصفعات لا القبلات!
الفُرص متاحة، والمال لا يُعد ولا يُحصى..والجميلات يتراقصن حولك ومعك..
الخادم يقف انحناءا لطاعة أوامرك، وتحقيق أحلامك فور تخيلها..

ومع ذلك؛ لا يوجد أى استجابة إيجابية ازاء تلك المغريات!


تنفض عنك كل هذا النعيم..تستمسك بقضبان سجن أبدي عشت فيه عشرين عاما، وبعد أن كُتبت لك النجاة، ظلت قضبانه رابضة بين حنايا عقلك وقلبك ..متعلقا بمن أذلك وأهانك.. متمرغا فى تراب معذبيك..مستعذبا آيات الذل والقهر والحرمان والعوز!!

فهل يمكن أن تكون هناك جريمة أبشع من تحويلكك لجسد يتلذذ بالإهانة، وعقلا يقتات على عبوديته؟!
تتبدل تماما إلى عبد ذليل..مازوخي متعتك الحصرية تستخلصها من إيذاء الآخرين لك!

هذه باختصار هى قصة بطل فيلم(سوق المتعة)(1) أبو المحاسن، والذى يجد نفسه فجأة متورطا فى قضية اتجار بالمخدرات، دون اقتراف اية خطيئة لها علاقة بالحكم الصادر ضده!


وحينما يقضي 20 عاما من عمره خلف الأسوار، يجد المجرم الحقيقي على أتم استعداد لتعويضه ماديا بمبلغ كبير وتقديم خدمة مستدامة، لا تتوقف ابدا مدى الحياة!
ومع كل هذا الترف والبذخ، يتأفف من جنته..ويرتحل لجهنم هذه المرة بكامل إرادته الحرة،
فيستغل ثروته فى بناء “سجن جديد”..بدلا من قصر يتمرغ في رغده..
يستبدل فراش وثير في فندق خمس نجوم..بفرش بسيط على أرضية حمام!!
يتبول فى القمامة.. بدلا من المرحاض!


يتناول إفطاره على عربة فول..بالرغم من تنوع صُنوف الطعام أمامه وحوله!
يُرسل فى طلب مومس..يمارس معها العلاقة الجنسية بفتور تام..وفى النهاية يأمرها بأن تتعري وهو يستمني خلف الجدار بينما يتابعها؛ مثلما اعتاد في سجنه، وكأنه أصبح مع الوقت “لا جنسي” يتلذذ بإثارة نفسه بنفسه دون علاقة فعلية مع الجنس الآخر!


يقرر بناء سجن على نفس النموذج الذى قٌهر واستُعبد فيه، وكأنه اعتاد صنوف العذاب واستأنست روحه بسادية الأقدار؛ فيأتي بمن ضربوه وسخروا منه بل وكادوا أن يغتصبوه..ليأمرهم بإعادة ” تجاوزاتهم المعنوية والجسدية معه !!
وفقط حينما تتجلى (أحلام)؛ تلك المومس التي يقع فى حبها ويريد الزواج بها؛ يدرك حينها عمق مصابه ومعاناته ، فقد جاء اسمها كرمزية للأحلام التي سيبقى يتمناها وستظل دوما محرمة!


حيث ظل السجن قابعا بقلبه وعقله..وحتى جسده الأسير لعادات شاذة..يستخلص منها لذته واثارته !
تأكد تماما وقتها؛ من أنه سيحيا البقية من حياته على هذه الحال؛ فقط وحصريا ” كالبهائم”


تمرد حينها وتجرأ وسأل، وكان على علم بأن من يخرق هذه القاعدة..سيكون القتل جزاءه الأوحد!
هزمت فطرة الانسان، جسده المهان..وانتفض على قالبه المادي، فاختار هذه المرة أن يموت انسانا؛ لا كالبهائم المساقة المنصاعة..


اختار الثأر لكرامته..انسانيته..بل وجسده الذي أُهين نصف حياته!


قتل المجرم الذى تسبب في كل هذه البشاعة..قتل سنين الذل والقهر والاستعباد وهو على حافة الموت واليقين بحدوثه..مات منتشيا بانتصاره لفطرته وانسانيته وحقه الذى حُرم منه فى الدنيا!!
مؤكدا بكلماته: “أنا عايز أموت بني ادم..زي ما ربنا خلقني..”

صرّح الكاتب الكبير (وحيد حامد) خلال ندوة تكريمه ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائى بدورته الـ42:
“:سوق المتعة يُشكل عندى أهم أفلامي.. وموضوعه غير مسبوق، وغير مطروق قبل كده، وجايز للسبب ده الناس مفهمتوش أوى ومااستوعبتوش وقتها “

أؤيد كلماته تماما للأسباب الآتية:


أولا:


جرأة الطرح والتناول

وصف البطل الكاشف لما يحدث داخل السجن من انتهاكات جسدية وجنسية بل وتوحده مع المجرمين حد التواؤم والتعاطف أشبه (بمتلازمة ستوكهولم) المعروفة،والتي يتم تناولها للمرة الأولى في السينما المصرية وبهذه الجرأة الغير معهودة؛ فنرى البطل وهو محتفظا بصور المجرمين والمغتصبين في ألبوم صور، يسترجع من خلاله ذكريات الحبس بمتعة ، ويحكي عمن كاد أن يغتصبه بطريقة عادية جدا، كأنه أمر مفروغ منه يحدث بطبيعية شديدة مع كل نزيل جديد في السجن..

تناول جرىء وحي لتجسيد حالة (اللاجنسية)التي أصابت البطل، بعد مكوثه عشرين عاما لا يمس فيها جسد امرأة، بل مجرد صور عارية يستمني عليها أثناء حبسه، فأصبحت متعته الجنسية الوحيدة فى “الاستمناء” لا العلاقة الجنسية الفعلية!


وهذا في حد ذاته طرح جرىء جدا يتم تناوله للمرة الأولى على شاشات السينما المصرية..


تكرر ظهوره مؤخرا في مسلسل(60 دقيقة) والذي تناول هذه الحالة بتركيبة نفسية واجتماعية مختلفة للبطل وأشار إليها الطبيب المعالج له بالتصريح المباش، مُحللا:


“بيعاني من اضطرابات جنسية متعددة..مزيج من ال(اللاجنسية)asexuality واضطراب التلصص” وهذا يعتبر أول عمل درامي عربي يتناول شخصية (لاجنسية) باستفاضة من خلال أحداثه(2)

ثانيا:


فتاة الليل لأول مرة في ثوبها الجديد: حيث تناول الكاتب الكبير (وحيد حامد) شخصية (أحلام) بحرفية وتفاصيل صادمة:
ف(أحلام)، فتاة ليل لا يبدو عليها إطلاقا سمة من سمات الانحراف، بل تظهر على الشاشة للمرة الأولى، بنظارة سميكة وشعر معقود، وملابس محتشمة منمقة، من خلف مكتبها بمكان العمل..وتبدأ في وضع شروط صعبة كنوع من التقنين “الفردي” للدعارة:


“انا بشتغل بشروطى..ده انا كل حين ومين لما بطلعلي طالعة..لا عجوز ولا عيان ولا عنده كحة ولا بيشرب خمرة..يكون مؤدب..يمشي حسب الأصول والشرع..وهي ساعة زمن واحدة..مقدرش اتأخر عن الساعة 12 بالليل خالص..عندى اخ مفيش ارذل منه”


وتحاول عبثا تبرير موقفها، بأنها تفعل ذلك لأجل متعتها الشخصية، فقد قاربت على الثلاثين وجسدها في حاجة للتفريغ الطبيعي..كما تحتاج المال لتجهيز نفسها للزواج..


جائت كل أدوار العاهرات، على الشاشة من قبل بشكل كليشيهي “جاهز”، فهن إما يمارسن الدعارة بالغصب، وإما يمارسنها لأجل لقمة العيش والتكفل بأسرهن!


أما (وحيد حامد) فقد تناول هذه الشخصية بتفاصيل كثيرة وزاوية رؤية غير معهودة ،عليها بصمته وحده!

حتى حينما منحها البطل فرصة للزواج به، أدلت بحجج إضافية وشروط تعجيزية، تعبر عن رفضها الضمني للارتباط به مُفسرة:


“اتجوزك اعمل بيك ايه؟ انت عايز عروسة تتفرج عليها..روح هاتلك شريط فيديو..


أنا عايزة اتجوز راجل طبيعي..أنا يوم لما أبقى على ذمة راجل..هكون أشرف ست..وأجمل ست وأخلص ست..وأحسن أم..وأكثر ست تسعد راجل…أنا مستعدة أعيش عمري كله ضايعة وخايفة وقلقانة وغلبانة وتعيسة..بس أعيش الدنيا اللي كل اللي الناس عايشنها..لكن ادخل السجن وابقى ملكة على راسى تاج؟! لا!”.

بالرغم من المبالغ الطائلة التي عرضها عليها، إلا أنها قاومت إغراء العرض ، رافضة لهذا السلوك الشاذ من جانبه، راغبة في حياة توفر لها الكرامة الإنسانية وبيئة نفسية سوية، تساعدها على الإخلاص لزوجها؛


فهذا الرجل رغم إمكانياته المادية الكبيرة، أضحى مريضا، يشتهي العذاب كما اعتاد في حبسه عشرين عاما، يسعى وراء الألم، والقهر، والإذلال، يبارك خطوات جلاديه، يدفع لهم أموالا طائلة كي يعيدوه إلى حبسه، ويحكموا قبضتهم على حياته بل وجسده، الذي أُهين على أيديهم مرارا وتكرارا..


يفتقد مشاهد الإهانة التي تعرّض لها، فيكتب هذه المرة سيناريو “تعذيبه” بيده وقراره وماله!!


أشبه باضطراب مازوخي، يتوحد فيه المريض مع الألم، بل ويصبح هذا الألم : “لذته الوحيدة”
كأنه يخدع عقلة الباطن، بأنه لطالما كان المسيطر والفاعل، وأن ما حدث له، كان بكامل إرادته واختياره الحُر، كآلية دفاع يستطيع من خلالها التأقلم مع الألم، والقهر الذي تعرض له، بل وتحويل هذا الألم للذة يشتهيها!

يؤكد هذا التفسير عالم النفس الذاتي(هاينز كوهوت) حيث يقول :
“الألم الذي يُعاد تمثيله، ليس ميلا للعذاب، بل محاولة لترميم الذات عبر امتلاك ما كان خارجا عن السيطرة”

وتؤيده في ذلك عالمة النفس والمحللة السويسرية(أليس ميللر) حيث تقول:


“نُعيد قصص الألم التي كسرتنا، ليس بدافع التدمير، بل لنُصيغ النهاية بأنفسنا هذه المرة”

كذا كان البطل، بطمح للعلاج عبر التوحد مع “المرض” لا علاجه، عبر التواؤم مع جلاديه، لا القضاء عليهم..فأفرز هذا الخلل، وسيطر الاضطراب النفسي على كل جوانب حياته…

هذا العمل يُعد من أقوى وأجرأ الأفلام التي تناولتها السينما المصرية آنذاك، كان سابقا بتحليله الدقيق والواعي، زمانه، فلم يستطع أغلب الجمهوربل وبعض النقاد، فهم رسائله المبطنه ومحتواه الفلسفي والنفسي، ولذلك لم ينل التقدير الذي يستحق، حاله كحال كل الأعمال العظيمة والخالدة سواء في الفن أو الأدب، ، يتم نقدها ونبذها في البداية، ثم تُكتشف قيمتها الحقيقية في أجيال لاحقة !

*هوامش:


1)فيلم سوق المتعة _ 2000
تأليف: وحيد حامد.. إخراج: سمير سيف.. بطولة: محمود عبد العزيز_ إلهام شاهينفاروق الفيشاويأحمد فؤاد سليم_ سعيد طرابيك_سامي سرحان

2)مسلسل 60 دقيقة _ 2021
تأليف: محمد هشام عبية_ إخراج: مريم أحمدي_ بطولة:محمود نصر، ياسمين رئيس، سوسن بدر، شيرين رضا، خالد كمال

شاهد أيضاً

اسعار الذهب اليوم

اسعار الذهب اليوم

شفا – جاءت اسعار الذهب اليوم الخميس 27 نوفمبر كالتالي : سعر أونصة الذهب عالمياً …