
الردع الهش ، لماذا تفشل القوى الكبرى في فرض قواعد اشتباك ثابتة في الشرق الأوسط ؟ بقلم : محمد زيات
مقدمة
يُعدّ الشرق الأوسط أكثر مناطق العالم حساسية من حيث توازنات القوة وحدّة التفاعلات العسكرية والسياسية. فالقواعد التي تحكم الاشتباك بين القوى الكبرى والفاعلين الإقليميين تتغير باستمرار، ولا تنجح أي قوة دولية في تثبيتها أو فرضها على أطراف المشهد، وعلى الرغم من امتلاك الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا والصين أدوات عسكرية وسياسية واقتصادية هائلة، إلا أن قدرتها على إدارة خطوط التماس وضبط الصراع الإقليمي تبدو محدودة، بل ومهددة بالانهيار في كل أزمة جديدة.
هذه الظاهرة، التي يمكن وصفها بـ “الردع الهش”، أصبحت سمة ملاصقة للمشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، فالتصعيد يحدث بأقل وأتفه الأسباب، وردود الفعل لا تسير وفق توقعات القوى الكبرى، بينما الأطراف المحلية والإقليمية غالبًا ما تقرأ التهديدات الدولية بشكل مختلف، أو تملك مساحات مناورة تجعل الردع الخارجي أقل تأثيرًا مما يفترض.
في هذا المقال سنحاول تفكيك هذه المعادلة المعقدة: ولو تسائلنا لماذا لا يُترجم نفوذ القوى الكبرى إلى قواعد اشتباك مستقرة؟ وما العوامل التي تجعل الردع غير قادر على منع التصعيد أو فرض الاستقرار؟ وما هي السيناريوهات المستقبلية لصياغة منظومة اشتباك جديدة تتناسب مع توازنات المنطقة؟
أولًا: تحالفات متغيرة تُسقط أي قواعد ثابتة
المنطقة تشهد ما يشبه إعادة ترتيب مستمرة على مستوى التحالفات، فدول تتقارب اليوم وتتنافر غدًا، محاور تنشأ وتتفكك، وشبكات تعاون أمنية تظهر ثم تتبدد، هذا التغيّر السريع يجعل القوى الكبرى عاجزة عن بناء قواعد اشتباك مستقرة، لأن أطراف المعادلة نفسها ليست ثابتة.
- تعدد المحاور وبروز فاعلين جدد
لم يعد المشهد الإقليمي يقوم على محورين ثابتين، بل أصبح أكثر تشعبًا، فهناك:
- دول خليجية تعيد صياغة علاقاتها بطرق مختلفة عما سبق مع قوى دولية جديدة، مثل السعودية، وقطر، وعُمان، والبحرين.
- دول إقليمية صاعدة تفرض أدوارًا مستقلة تتجاوز التحالف التقليدي مع واشنطن أو موسكو، مثل الهند وتركيا، والامارات.
- مجموعات مسلحة مدعومة إقليميًا تتصرف كقوى مستقلة تمامًا وتجاوزت في دورها وتأثيرها حدود الدولة، مثل مجموعات الدعم السريع.
إن هذا التشكيل المتحرك يجعل أي قواعد اشتباك مفترضة عرضة للتآكل، لأن موازين القوة ليست مستقرة، والولاءات لا تستقر عند نقطة واحدة.
- تحالفات دفاعية غير مكتملة
على الرغم من وجود هياكل دفاعية ثنائية أو ثلاثية، إلا أن معظمها لا يرقى إلى تحالفات رسمية ذات التزامات واضحة، فهي تحالفات مرنة، تُبنى على مصالح ظرفية مؤقتة، وتنهار عند أول اختبار، وهذا بحد ذاته يسقط فكرة الردع العام أو الجماعي سريعاً.
ثانيًا: تعقّد النظام الدولي وسقوط ثنائية النفوذ
في العقود الماضية، كانت الولايات المتحدة اللاعب الأكبر بلا منافس حقيقي أما اليوم، فقد دخلت الصين على الخط بقوة في كل المجالات، وتحاول روسيا تثبيت وفرض موقعها في هذا التعدد والتنافس الطاحن، بينما القوى الأوروبية تبحث عن موطئ قدم وسط هذا التنافس، إن هذا التعقيد يجعل فرض قواعد الاشتباك مهمة شبه مستحيلة.
- صراع الأجندات الكبرى
لكل قوة عالمية أهدافها ومبادئها الخاصة ومن الأمثلة الحية على ذلك:
- أمريكا تريد تقييد النفوذ النووي والعسكري لبعض الدول مثل إيران وكوريا الشمالية، وتأمين طرق الطاقة.
- الصين تركّز على مشاريع البنية التحتية والتجارة، معتبرة الاستقرار أهم من النفوذ السياسي المباشر، فهي تعتقد ان هذا الاستقرار هو الأساس الذي يُبنى عليه النفوذ السياسي.
- روسيا تعتمد على حضورها العسكري كعامل أساسي للنفوذ والمحافظة على قوة الردع.
- أوروبا تحاول حماية مصالحها دون أن تتحمل كلفة مواجهات مباشرة مع أي طرف من الأطراف.
اختلاف هذه الأولويات يؤثر مباشرة على مفهوم الردع؛ فحين يكون الهدف غير موحّد، تصبح أدوات الضغط غير متناسقة، ويتحوّل الردع إلى خليط من السياسات المتناقضة.
- صعود “اللاعبين من غير الدول”
قواعد الاشتباك كانت تُصاغ بين دول ذات جيوش رسمية، واليوم أطراف جديدة تشارك في الصراع: مثل الفصائل المسلحة، ومجموعات غير الدولة، وكيانات تمتلك قدرات صاروخية وطائرات مسيرة، ومنصات إطلاق مستقلة.
هذه الأطراف لا تنضبط بالمنطق الذي يعتمده الردع التقليدي، ولا تتصرف كدول تخشى العقوبات أو التبعات الاقتصادية، ما يجعل منظومة الردع أقل فعالية وأكثر تعقيداً وهشاشة.
ثالثًا: تآكل مفهوم الردع التقليدي
مفهوم الردع القائم على التهديد باستخدام القوة لم يعد كافيًا في وقتنا الحالي، إذ أن المنطقة شهدت مرارًا فشل هذا النموذج، لأن كثيرًا من الأطراف لم تعد تقرأ التهديدات الخارجية كما تقرؤها النظريات الكلاسيكية المعتادة وسنوضح هذا التآكل كما يلي
- منطق الردع لم يعد يُخيف الجميع
الدول الكبرى تعتمد على معادلة بسيطة:
“إذا فعلت كذا، سأرد بقوة، وبالتالي ستتراجع”.
لكن في الشرق الأوسط:
- بعض القوى الإقليمية تمتلك دوافع أيديولوجية تتجاوز الحسابات البحتة.
- بعض الفصائل المسلحة مستعدة لدفع ثمن المواجهة مقابل مكاسب رمزية أو سياسية أو معنوية.
- الجهات غير الدولة لا تعتمد على بنية اقتصادية تخشى خسارتها.
هذه العوامل تجعل الردع غير متوازن، لأن التهديد بخسائر اقتصادية أو سياسية ليس فعالًا مع جميع الأطراف.
- انفصال الردع عن القدرة الفعلية
ليست كل دولة تملك قوة عسكرية قادرة على استخدامها بفعالية، فبعض الدول تمتلك ترسانات ضخمة لكنها تفتقر إلى، البنية التكنولوجية المتطورة، والخبرة العملياتية، أو القدرة على إدارة صراع طويل.
هذا الانفصال بين القوة النظرية والقدرة العملية يؤدي إلى “ردع ورقي” سرعان ما ينهار عند أول مواجهة.
رابعًا: غياب منظومة رقابية تفرض الالتزام
لكي تنجح قواعد الاشتباك يجب أن يكون هناك نظام رقابي يضمن احترامها، لكن الشرق الأوسط يفتقر إلى:
- آلية إقليمية فعالة لإدارة الأزمات، والصراعات المختلفة.
- كيانات موثوقة لتطبيق العقوبات على الأطراف المخالفة.
- ثقة سياسية بين الدول تسمح ببناء نظام أمن جماعي.
إن غياب هذه العناصر يعني أن أي اتفاق غير مصحوب بآليات تنفيذ فعلية لن يصمد طويلًا.
خامسًا: ثورة التكنولوجيا العسكرية وتغيير قواعد اللعبة
التحول التكنولوجي في السلاح هو أحد أهم الأسباب وراء هشاشة الردع.
- المسيّرات تغيّر هندسة الاشتباك
الطائرات دون طيار أصبحت، رخيصة، دقيقة، متعددة الأغراض، وقادرة على تجاوز الأنظمة الدفاعية التقليدية.
علاوة على أن التكلفة المنخفضة للمسيرة مقابل تكلفة إسقاطها تجعل ميزان الردع مختلًا. - الحرب السيبرانية: سلاح صامت يربك الردع
الهجمات السيبرانية تستطيع، تعطيل مطارات، إرباك شبكات كهرباء، التأثير على البنى التحتية.
إن كل ذلك يحدث دون إطلاق رصاصة واحدة، وبما أن الجهة المنفذة غير معروفة غالبًا، يصبح الردع التقليدي عاجزًا.
سادسًا: الاقتصاد كسلاح وكساحة اشتباك جديدة
لم يعد الصراع في الشرق الأوسط عسكريًا فقط، فالقوى الكبرى تستخدم أدوات اقتصادية لتأديب خصومها، لكن الأدوات الاقتصادية نفسها أصبحت جزءًا من حرب النفوذ.
- سلاح العقوبات وتأثيره المحدود
العقوبات الاقتصادية لم تعد تحقق النتائج المرجوة دائمًا، لأن دولًا كثيرة أصبحت قادرة على:
- إيجاد بدائل تجارية جديدة.
- التعاون مع اقتصادات ناشئة.
- أو الاعتماد على اقتصاد غير رسمي يكسر الحصار.
هذا يحدّ من قدرة القوى الكبرى على فرض قواعد اشتباك من خلال الضغط الاقتصادي.
- مشروعات البنية التحتية كمجال صراع
الاستثمارات الدولية في، الموانئ، وشبكات الطاقة، وخطوط الربط الكهربائي، ومشاريع القطار، وأنظمة الاتصالات، أصبحت أدوات سياسية للنفوذ، وليس فقط مشاريع تنموية.
وبما أن كل قوة كبرى تسعى لربط أكبر عدد من الدول بشبكتها الاقتصادية، تتداخل المصالح بشكل يجعل الساحة الإقليمية أكثر تعقيدًا وأقل قابلية للضبط.
سابعًا: الأمثلة الحديثة تكشف هشاشة الردع
الأزمات المتتالية في المنطقة — من الحرب في غزة، إلى التوترات في الخليج، مرورًا بالاشتباكات المتقطعة في ساحات أخرى — تُظهر بوضوح:
- أن التهديدات الكبرى لم تمنع التصعيد.
- وأن الأطراف المحلية ليست دائمًا مستعدة للرضوخ للإملاءات.
- وأن القوى الكبرى تتدخل حينًا وتتراجع حينًا آخر، مما يخلق فراغًا استراتيجيًا تستفيد منه القوى الإقليمية الصاعدة.
ثامنًا: كيف يمكن بناء قواعد اشتباك مستقرة مستقبلًا؟
على الرغم من التعقيد الحالي، إلا أن إمكانية بناء نموذج اشتباك جديد ليست مستحيلة، لكنها تحتاج:
- حوار أمني إقليمي شامل
بمشاركة جميع القوى الأساسية، وليس فقط الحلفاء التقليديين، وأن تتوافر الإرادة الجادة لدى جميع الأطراف. - دمج الاقتصاد بالمنظومة الأمنية
بحيث ترتبط الاستثمارات والاتفاقات التجارية بسلوك سياسي مستقر ومطبق على أرض الواقع. - ضبط التكنولوجيا العسكرية
من خلال اتفاقات تقيّد استخدام الطائرات دون طيار والأسلحة السيبرانية. - بناء قنوات اتصال دائمة
بين الخصوم لمنع سوء التقدير الذي يؤدي إلى انفجار الأزمات. - تعزيز مبدأ الردع الجماعي
بدل الاعتماد على ردع تفرضه قوة واحدة، وبالتالي لا يفقد مفهوم الرد مضمونه.
الخاتمة
الشرق الأوسط يعيش اليوم في مرحلة “ردع هش”، لا تمنع فيه تهديدات القوى الكبرى التصعيد، ولا تضمن فيه القوة العسكرية الاستقرار، هذه الهشاشة ليست نتيجة ضعف القوة الدولية، بل بسبب تغيّر بنية المنطقة نفسها، وتعدد اللاعبين، وتحول الاقتصاد والتكنولوجيا إلى أدوات اشتباك جديدة.
ولذلك، فإن بناء قواعد اشتباك مستقرة يتطلب اعترافًا بأن النموذج القديم لم يعد صالحًا، وأن المنطقة بحاجة إلى إطار جديد يدمج الأمن بالاقتصاد، والدولة بالفاعلين الجدد، والقوة بالثقة دون ذلك، ستظل المواجهات قابلة للانفجار في أي لحظة، وسيظل الردع هشًا، مهما بلغت قوة الجهات التي تحاول فرضه.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .