
حارس الذاكرة… ومرآة الوجود ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني
في لحظة يتداخل فيها الماضي بالحاضر كطبقتين من الضوء، يعود اسم أبو عمار لا بوصفه ذكرى، بل كياناً ينهض من بين الشقوق ليذكّرنا بأن الذاكرة ليست ما نحتفظ به، بل ما يصرّ علينا أن نحياه. في زمنٍ يتكلم فيه الركام أكثر مما تتكلم المدن، يُطلّ عرفات كصوتٍ يختبر وعينا قبل عاطفتنا، ويعيد ترتيب علاقتنا بالوجود وبفلسطين ذاتها.
عندما يُذكر عرفات، ينبض القلب باسم: الرئيس، القائد، الرمز… أبو عمار. ليس مجرد اسم على صفحات التاريخ، بل جسد أمة يمتد بين الماضي والحاضر، فكرة تتحدى الانكسار، وإرادة لا تموت. اليوم، في زمن الحرب المستمرة منذ 7 أكتوبر، وفي خضم الانقسام الذي ينهش الجسد الفلسطيني، يصبح استحضاره أكثر من ذكريات؛ يصبح مرآةً لصمودنا، اختباراً للوعي، ومختبراً للفكر الجماعي والفردي، حيث كل حجر، وكل شارع، وكل روح تحمل إرثاً للوجود، وكل لحظة عيش وسط الخراب تحفر حضورنا في تاريخ الأرض.
أبو عمار كان أكثر من قائد سياسي؛ كان حافظاً لذاكرة وطن كامل. في كل خطاب، وكل موقف، كان ينقل التاريخ الفلسطيني من النكبات إلى الحلم بالعودة، من الشتات إلى عودة الروح، ليصبح الماضي شعلة مضيئة في حاضرنا المظلم. فلسطين ليست أرضاً فقط، بل وعاء للذاكرة، ومخزون للوعي الجمعي الذي يرفض أن يطوى أو يُمحى. صمود اليوم هو امتداد حي لإرثه، رسالة بأن الوجود يحتاج إلى رعاية مستمرة، وأن التاريخ الحي هو ما يولّد الصبر ويغذي العزيمة.
منذ 7 أكتوبر، ومع استمرار القصف والدمار، أصبح كل فعل صغير فعل حياة: طفل يحاول أن يرسم حلمه على حائط محطم، معلم ينقل المعرفة في غرفة بلا نوافذ، أسرة تحمي حياتها وسط فقدان المنازل والأحباب. الصمود اليوم ليس مجرد خيار، بل ممارسة وجودية تتجاوز السياسة، لأنه يتعلق بالحياة نفسها، بالوعي، بالكرامة، وبإعادة تشكيل المعنى في قلب الركام، حيث يصبح الألم شرارة للإبداع، والانكسار منصة للتجدد الداخلي.
الانقسام الداخلي لا يقتل الأرض وحدها، بل يختبر روح الأمة. أبو عمار كان رمزاً لوحدة الروح بين الأجزاء المتفرقة، ليعلّمنا أن الحرية لا تتحقق بالقوة وحدها، بل بالإيمان العميق بالوعي الجماعي، بقدرة المجتمع على صون ذاته، وبأن الفكر والضمير قادران على الوقوف أمام الظلام أكثر من أي سلاح. كل كلمة اليوم، كل فعل يومي، هو استمرار لهذه الوحدة غير المرئية، التي تصنع حضورنا في زمن الانكسار، فتتحول الأرض إلى مساحة رمزية للثبات، والهوية إلى فعل يومي حيّ.
عرفات كان أيضاً رمزاً للمرونة والإبداع في مواجهة الصعاب، في تحويل الألم إلى قوة، والركام إلى بذرة أمل. في زمن الحرب والدمار، نستمد منه القدرة على التجدد، على إعادة تشكيل الفعل الوطني، على خلق أفق جديد لكل جرح وتجربة، على تحويل العنف والفراغ إلى وعاء للوعي والإبداع، لتبقى فلسطين حيّة في الفكر والروح، رغم كل محاولات المحو والإبادة. كل سقوط حجر، أو انهيار جدار، هو دعوة لإعادة تشكيل الداخل وصناعة المستقبل من رماد الحاضر.
الحرب المستمرة والدمار ليسا اختباراً للجسد فقط، بل للوعي والكرامة الإنسانية. الصمود الحقيقي يظهر في القدرة على حماية التعليم، الثقافة، القيم الإنسانية، وفي كل فعل يومي يعيد بناء المجتمع من الداخل قبل أي محاولة لتغييره خارجياً. كل ركام، كل دمعة، وكل صرخة طفل، هي شهادة حية على أن فلسطين ليست مجرد أرض، بل تجربة أخلاقية وفكرية مستمرة، صرخة وجود تتحدى الغياب، وفلسفة حياة تتخطى حدود المألوف، لتعيد تعريف معنى الحرية والتمسك بالوجود.
ذكرى عرفات اليوم ليست مجرد تأمل في الماضي، بل دعوة للحياة نفسها: للإبداع، للاستمرار، للحفاظ على الهوية والكرامة وسط الظلام. أبو عمار ليس رمزاً رحل، بل مرآة الصمود التي يجب أن نقرأ فيها حاضرنا، ونستوحي منها الإرادة على أن نبقى، وأن نصنع المستقبل من رماد الحاضر. فلسطين تبقى حيّة في كل فعل صغير، في كل ابتسامة وسط الركام، وفي كل دمعة تحفظ الذاكرة، لتؤكد أن الحرية تبدأ دائماً من الداخل، قبل أن تتحقق في الخارج، وأن الإرادة على الحياة، مهما اشتد الظلام، هي أسمى أشكال القوة الإنسانية، وأعمق أنواع الفلسفة الحية.
وحين يهدأ النص ولا تهدأ أفكاره، يظل إرث أبو عمار ميزاناً نقيس به قدرة الروح على النهوض. ليس حضورُه حكايةً تُروى، بل معياراً لفهم ما يبقى فينا حين يتداعى كل شيء من حولنا. فحين يتكاثف الظلام، تتقدّم الذاكرة لتقود الخطى، وتغدو الحياة فعل وعي قبل أن تكون فعل جسد. وهكذا تبقى فلسطين، ويبقى هو—حارساً للذاكرة، ومرآةً لما لا يزال ممكناً فينا رغم كل عصف العالم.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .