
الهندسة الاحتلالية الإسرائيلية للضفة الغربية ، بقلم : سالي ابو عياش
لم يكن الوضع في الضفة الغربية قبل السابع من أكتوبر 2023 أفضل بكثير مما هو عليه الآن. فقد استمرت سياسات الاحتلال المعتادة من: اعتقالات، تدمير منازل وممتلكات، قتل، إغلاق الحواجز، واقتحامات متكررة…
لكن بعد السابع من أكتوبر تحوّلت هذه السياسات إلى منهج ممنهج لتكثيف العقاب على الضفة الغربية، بحيث لم تعد القرارات مجرد إجراءات عابرة، بل خطوات مدروسة بعناية لإخراج الفلسطيني تدريجياً من المعادلة السياسية والجغرافية والاقتصادية.
إلى جانب الحرب في قطاع غزة قامت الحكومة الإسرائيلية بالعمل على تكثيف الحواجز والبوابات الحديدية والإغلاقات فوصل عدد البوابات الحديدة قرابة 1000 بوابة بين المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، بالإضافة إلى فرض سياسات اقتصادية دقيقة، كما سعت إسرائيل لإغلاق المنافذ على الفلسطينيين وإضعاف قدرتهم على الصمود، بما يجعل الضفة الغربية أكثر عزلة واعتماداً على الإرادة الإسرائيلية.
الخنق الجغرافي للضفة الغربية:
لم يعد التحكم بالجغرافيا أداة أمنية فحسب، بل أصبح سلاحاً سياسياً واستراتيجياً لإعادة هندسة الضفة الغربية، حيث تعمل سياسات الاحتلال على تقطيع أوصالها من خلال المستوطنات والطرق الالتفافية التي تتزايد يوماً بعد يوم على حساب الأراضي الفلسطينية، وفرض سيادة إسرائيلية مطلقة على المناطق الاستراتيجية.
إضافة إلى ذلك، تزايدت عمليات المستوطنين التخريبية تجاه المدن الفلسطينية بشكل عام، وبالأخص التجمعات المهددة بالمصادرة، كما هو الحال في مسافر يطا جنوب الخليل، حيث تُحوّل بعض المناطق إلى مناطق عسكرية مغلقة، مما يؤدي إلى تهجير السكان الأصليين وإفقادهم السيطرة على مواردهم. وشهدت مناطق أخرى مثل النبي يونس في الخليل بناء بؤرة استيطانية جديدة، مع مصادرة الأراضي بحجج مختلفة ومناطق متنوعة، وهذا جله لتأكيد وجود استيطاني دائم في قلب الضفة الغربية.
ويجدر التذكير بأن عدد المستوطنين في الضفة الغربية بنهاية عام 2024 بلغ نحو 770 ألف مستوطن، موزعين على 180 مستوطنة و256 بؤرة استعمارية، من ضمنها 136 بؤرة رعوية زراعية. وتغطي هذه البؤر وحدها أكثر من 480 ألف دونم من الأراضي، أغلبها في مناطق الأغوار والسفوح الشرقية، وهو ما يمثل ثلاثة أضعاف المساحات المبنية ضمن المستوطنات القائمة.
تؤدي هذه الخطوات إلى تحويل الضفة الغربية إلى شبكة من الجزر الفلسطينية المعزولة، غير القادرة على الحركة بحرية أو التواصل الطبيعي بين المناطق، وهو ما يعكس استراتيجية الاحتلال طويلة الأمد لإضعاف أي شكل من أشكال المقاومة أو الوجود السياسي الفلسطيني الفاعل على الأرض.
استخدام سياسة الخنق الاقتصادي:
ليست سياسة الخنق الاقتصادي وليدة الأحداث الأخيرة في فلسطين، بل هي امتداد لسياسة قديمة تهدف إلى تكملة الخنق الجغرافي. في الآونة الأخيرة، ظهرت تصريحات وسياسات تعزز الحصار الاقتصادي للفلسطينيين، خاصة بعد منع العمال الفلسطينيين من العمل داخل إسرائيل عقب الحرب على قطاع غزة.
فقبل السابع من أكتوبر، كان عدد الفلسطينيين العاملين داخل الاقتصاد الإسرائيلي حوالي 170–178 ألف عامل وفق تقديرات البنك الدولي وPCBS. وكان هؤلاء يشكلون رافداً اقتصادياً مهماً للقدرة الشرائية وسلاسل الدخل في الضفة الغربية. بعد قرار المنع، انخفض عددهم بشكل حاد إلى نحو 21–24 ألفاً، أي بانخفاض يزيد على 80% خلال ربع واحد فقط، أدى هذا التراجع إلى ارتفاع البطالة، انخفاض القدرة الشرائية، وزيادة الاعتماد على المساعدات الخارجية، وهو ما عزز سيطرة الاحتلال على الاقتصاد الفلسطيني وأضعف أي قدرة على الاستقلال المالي.
في الأيام الأخيرة، صرح وزير المالية الإسرائيلي، سموتريتش، عن قراره باستبدال العمال الفلسطينيين بعمال أجانب. وهذا القرار ليس مجرد إجراء إداري، بل يُعد سلاحاً اقتصادياً بيد الاحتلال، مع تجاهله المفارقة بين العمال الفلسطينيين والعمال الأجانب، الذين يحتاجون إلى توفير سكن وتأمين وخدمات وإقامة تقع على عاتق الحكومة الإسرائيلية، بالإضافة إلى تحويل جزء من أجورهم بالشيكل الإسرائيلي إلى عملات صعبة لإرسالها إلى بلدانهم، ما يخلق عبئاً اقتصادياً إضافياً على إسرائيل نفسها، لكنه في الوقت ذاته يضر الفلسطينيين بشكل مباشر.
إضافة إلى ذلك، الاستمرار في التحكم بأموال المقاصة واحتجازها يعكس سياسة اقتصادية ممنهجة للضغط على السلطة الفلسطينية وتقليص قدراتها المالية، مما يزيد من هشاشة الاقتصاد الوطني ويمنح الاحتلال أداة ضغط قوية على الصعيد السياسي والاجتماعي.
سياسة الضم والسيطرة على الأرض:
إلى جانب الخنق الاقتصادي والجغرافي، واصلت إسرائيل سياسة الضم الفعلي من خلال توسيع المستوطنات القائمة وإنشاء بؤر استيطانية جديدة، ما يعكس استمرار استراتيجية الاستيطان في المناطق التي يفترض أنها تحت السيطرة الفلسطينية الجزئية أو الكاملة. على سبيل المثال، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن قرار بناء 30 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، في خطوة تؤكد النهج الزاحف للضم دون الحاجة لإعلان رسمي، وتعكس رغبة الاحتلال في تثبيت وجوده على الأرض تدريجياً.
تؤدي هذه السياسة إلى إزالة الفلسطيني تدريجياً من أي قدرة على التحكم في أراضيه وموارده، وتحويل الضفة الغربية إلى مساحة خاضعة للإدارة الإسرائيلية بالكامل، مع الحد الأدنى من النشاط الفلسطيني المستقل. وتعزز هذه الإجراءات من عزلة المدن والقرى الفلسطينية، بحيث تصبح الضفة الغربية بمثابة شبكة من الجزر الفلسطينية المشتتة، غير القادرة على الحركة بحرية أو التواصل الطبيعي بين مناطقها، ما يعيق أي شكل من أشكال التنمية الاقتصادية أو السياسية المستدامة.
ولا يمكن فهم هذه الاستراتيجية بمعزل عن تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق A وB وC، وفق اتفاقيات أوسلو:
فالمناطق “A” التي تشمل المدن الكبرى وتخضع للسيطرة المدنية والأمنية الفلسطينية، تشكل حوالي 18% من مساحة الضفة، لكنها محاصرة بطرق التفافية ومستعمرات محيطة تحد من حرية الحركة والتنقل. أما مناطق “B” التي تخضع للسيطرة المدنية الفلسطينية والأمنية الإسرائيلية، فتتعرض لضغوط متزايدة من خلال النشاط الاستيطاني والتوسع العسكري، مما يضعف الإدارة المحلية وقدرتها على التخطيط والتنمية.
أما مناطق C”” والتي تشكل نحو 61% من مساحة الضفة، فهي تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وتشمل الأغوار ومعظم المستوطنات، حيث يتم فرض قيود صارمة على البناء الفلسطيني ومصادرة الأراضي، ما يحول هذه المناطق إلى مناطق استيطانية وعسكرية بالدرجة الأولى، ويحد بشكل جذري من أي حضور فلسطيني مستقل.
بهذه الطريقة، يصبح الضم الفعلي مكملاً للخنق الجغرافي والاقتصادي، حيث تتشابك السياسات الثلاثة لتضييق الخناق على السكان الفلسطينيين، وتقليص أي قدرة لهم على التحكم في مواردهم أو ممارسة نشاطهم السياسي والاقتصادي بحرية، بما يرسخ الهيمنة الإسرائيلية على كامل الضفة الغربية تدريجياً ويحولها إلى واقع يصعب على الفلسطينيين تغييره.
في النهاية، إن ما يجري اليوم ليس مجموعة قرارات منفصلة، بل هندسة احتلالية متكاملة:
جغرافياً: ضم الزاحف، البؤر الاستيطانية، الحواجز، وقطع الشرايين الحيوية بين المدن الفلسطينية.
اقتصادياً: إخراج العمال الفلسطينيين من الداخل الإسرائيلي، التحكم بالمقاصة، وخلق تبعية اقتصادية كاملة.
سكانياً وسياسياً: تهجير البدو، الاستيطان، السيطرة على الموارد، وتجريد الفلسطيني من أي أدوات ضغط.
والنتيجة أن الضفة الغربية تتحول إلى أراضٍ مقطّعة، واقتصاد هش، وسكان محدودي القدرة على التأثير، وهو ما يحقق هدف الاحتلال بفرض السيطرة الكاملة تدريجياً على كل مفاصل الحياة الفلسطينية.
فقراءة هذه السياسات بعين التحليل الاستراتيجي تمكّن الفلسطينيين من صياغة رد فعل متكامل يحمي الأرض والهوية والاقتصاد، ويواجه محاولات الاحتلال المستمرة لإلغاء وجود الفلسطيني على أرضه، ويضع خطة لمقاومة السيطرة الزاحفة من خلال أدوات سياسية، اقتصادية واجتماعية مدروسة.
 شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .
				 
			 
			 
			 
						
					 
						
					 
						
					 
						
					 
						
					 
						
					