12:22 صباحًا / 1 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

رحلت أمّ نضال، حارسة الحلم الفلسطيني ، بقلم : راسم عبيدات

.

رحلت أمّ نضال، حارسة الحلم الفلسطيني ، بقلم : راسم عبيدات

أمّ نضال أبو عكر، واحدة من أبرز عناوين النضال الوطني الفلسطيني، بقيت قابضة على الجمر حتى آخر يومٍ في حياتها، ولم تفقد اتجاهَ البوصلة — كما فقدتها الكثير من القيادات الفلسطينية والعربية، التي أفضَت إلى البحث عن مصالحها الخاصة، في زمن رُدّةٍ «حِراشيّ» كما وصف الكاتب والأديب الجزائري العروبي الراحل الطاهر وطار؛ زمنٌ أضحت فيه العروبة لعنةً على المتمسّكين والمتشبّثين بها، في عصرٍ يهرول فيه نظام عربيٌّ بأكمله نحو التطبيع وما يُعرف بـ«السلام الإبراهيمي» مع «إسرائيل»، معتقدًا أن قوى المقاومة هي السبب في كلّ الدّمَار والخراب الذي يصيب الوطن العربي، وليس بسبب أصحاب مشروعٍ استعماريٍّ يقوم على نهب الأرض الفلسطينية والتوسّع، وطرد وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، بل حتّى إنكار وجوده. فالمشروع الاستيطانيّ الرعويّ والدينيّ في الضفة الغربية وفي كلّ فلسطين التاريخية، وزيرُ المالية “الإسرائيلي” المتطرّف والمغرق في العنصريّة سموتريتش، يقول إنه «لا يوجد شعب فلسطيني، وهذا اختراع عمره أقل من مئة عام»، ويتباهى بأنه منذ بداية هذا العام صادروا ثلاثين ألف دونمٍ من أرضي الضفة الغربية، وسيغرقها بالمستوطنات والمستوطنين، معلِنًا عن إقامة دولة ما يُعرف بيهودا والسامرة.

أمّ نضال أبَتْ أن تتخلّى عن مفتاح العودة إلى قريتها رأس أبا عمار، التي دمّرتها قوات الاحتلال إلى جانب أكثر من 500 قرية ومدينة فلسطينية، في أكبر نكبة طرد وتهجير عرفها التاريخ البشريّ الحديث، وما زال الحلم يراود سموتريتش وكلّ المتطرّفين من أمثاله، بطرد وتهجير الشعب الفلسطيني؛ ولعلّ الحرب الشاملة التي تُشَن على شعبنا الفلسطيني، حربُ «الهندستين» الجغرافية والديموغرافية، تهدف لتحقيق هذا المخطّط والمشروع.

أمّ نضال — وهي تخبّئ مفتاح عودتها في حدقات عينيها الشاخصتين نحو قريتها رأس أبا عمار — تقول إنّ حقّ العودة، الفرديّ والجماعيّ، لا يسقط بالتقادم مهما كانت رداءة المرحلة وحالة الانهيار والسقوط.

أمّ نضال، هي واحدة من أبرز رموز النضال الوطني الفلسطيني، وبقيت متمثّلة قول الإمام عليّ رضي الله عنه: «لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلةِ السّائرين فيه». وهي كذلك كما يقول المأثور الشعبيّ: «لم تعرف يوم فرح في حياتها». فكان الاحتلال جيشًا، وأجهزتُه مخابراتٍ، زائراً دائمًا لبيتها، من أجل إما اعتقال ابنها نضال «أبا محمد»، الذي قضى أكثر من عشرين عامًا في سجون الاحتلال، معظمها في الاعتقال الإداري، حيث تحرّر قريبًا من اعتقالٍ إداريّ دام أربعةَ وثلاثين شهرًا. ونضال أبو عكر — لسان حاله يقول: «أحمد الله عندما تُشرِق الشمس كل صباح، ويبدأ يومٌ جديد دون أن أكون في السجن. أكثر من نصف حياتي قضيتها بالسجن، وفي كلّ يوم أجد نفسي خارج السجن أشعر بحياةً أخرى. أصبح وجودي طليقًا ليوم واحد هو وحده قياس لأرى الغد وأرى بعض الأصدقاء. كلّ حركاتي مع الناس كأنّها حركات وداع. كلّما أسمع صوت (الزّنانة) في السماء أعرف أنهم فوقي وحولي، يلاحقونني جوًّا وأرضًا، من شارعٍ إلى شارع. هذه حياتي — على قلق، كأنّي سأكون في السجن بعد قليل، أو كأنّي سأصاب برصاصة.»

أمّ نضال، حارِسة الحلم الفلسطيني، تجدها حاضرة في كلّ الأنشطة والفعاليات والمسيرات والاحتجاجات الخاصة بالأسرى وأهالي الشهداء. لا تكلّ ولا تَهْدأ، وهي في حالة استنفار دائم، معاركُ ومشاداتٌ مع جنود الاحتلال أو رجال المخابرات القادمين لاعتقال ابنها نضال أو ابنه محمد. ونضال وابنه محمد مكثا في المعتقل معًا، كما هو حال العديد من الأسر الفلسطينية. ففي سجن عسقلان عام 2006، كان معنا في المعتقل الأسير القائد فخري البرغوثي وابنه شادي، الذي تحرّر في صفقة التبادل مؤخرًا.

وأمّ نضال هي والدة الشهيد العجيب، الشهيد الحيّ محمد أبو عكر، الذي استُشهِد في عام 1990 برصاصة دمدم، وسُمّي «الشهيد الحيّ» لأنه دخل في نوبات موتٍ أكثر من مرة.

أمّ نضال تستذكر ما تعرّض له بيتها من عمليات دهم وتفتيش مستمرّة من أجل اعتقال نضال، حيث كان جيش وضباط ورجال المخابرات زُوّارًا دائمين لبيتهم من أجل اعتقال نضال، الذي كان فترةً مطاردًا: الدهم والتفتيش والاستفزاز والتكسير والضّرب والتحطيم والدمار الواسع، وآثاره: الهلع والخوف بادٍ على الأطفال، مع تهديداتٍ مستمرّة بالعودة.

مخيم الدهيشة، هو واحد من مخيمات بيت لحم إلى جانب مخيمَي عايدة والعزّة، لكنّه على الصّعيد النضالي ومقارعة الاحتلال كان الأبرز. أحاطه الاحتلال بسياجٍ بطول ثمانية أمتار، حتى لا يُلقى الحجارة أو قنابل المولotov على جنود الاحتلال أو دورياته، أو حافلات وسيارات المستوطنين التي تمرّ من أمامه باتجاه مدينة القدس أو مستوطنات جنوب الضّفة الغربية، قبل فترة أوسلو وما جلبه على شعبنا من كوارث.

المرض اللعين نال من جسد أمّ نضال بعد معركةٍ طويلة، ربما كانت شرسةً كما هي معاركها ومقارعتها للاحتلال. لكنّ الفارق هنا أن الاحتلال لم يستطع أن ينال من إرادة ومعنويات أمّ نضال، ولم ينجح في ثنيها أو ردعها عن التخلّي عن قناعاتها وأفكارها ومبادئها. بل كانت متجذّرة في انتمائها وقناعاتها، مؤمنة بأنها في يومٍ من الأيام ستعود إلى مسقط رأسها الذي هجّرت منه قسراً: قرية رأس أبا عمار.

أمّ نضال تجسيدٌ للمرأة الفلسطينية المناضِلة الصابِرة المضحيّة، التي دفعت الأثمان الباهظة من أجل أن يكون لأطفالها وأبنائها مكانة لائقة تحت الشمس، محرّرين من أغلال وقيود هذا الاحتلال، في عالمٍ يسوده الظلم وازدواجية وانتقائية المعايير، ومناصرة المحتلّ على الراشح تحت الاحتلال.

أمّ نضال كانت تحلم بأن يتجسّد حقّ عودتها إلى قريتها وهي حية على قيد الحياة، لكي تطلق زغاريدها وتقيم الأفراح والأعراس احتفالاً بذلك — لكن هذا الحلم لم يتحقّق، وإنّما بقي مستقراً في تلافيف دماغها، وحلمًا لن يسقط بالتقادم.

أمّ نضال رحلت عن هذه الدنيا الفانية، في مرحلةٍ يتعرض فيها شعبنا لحرب إبادة وتجويع وحصار وطرد وتهجير، في ظلّ نظامٍ عربيٍّ رسميّ بائس وصل حدّ الانهيار، بات يرى في بيانات الشجب والادانة – بخجلٍ – أعلى شكل من أشكال مقاومته لجرائم الاحتلال، بل أنّ هناك من يتآمر ويتواطأ على شعبنا، ويتحلّل من التزاماته القومية والوطنية، ويرى في القضية الفلسطينية عبئًا عليه، بدل أن تكون قضية العرب الأولى.

أمّ نضال رحلت جسدًا، لكن ذكراها ومواقفها ونضالاتها وتضحياتها سيورثها من هم أهل لحملها والاقتداء بها والسير على نهجها ودربها.

لكِ المجد والخلود يا أمّ نضال، ولشعبنا طول البقاء، في رحلةٍ طويلة ومستمرة من أجل تحقيق أهدافه، فالحرب على شعبنا شرسة، وللأسف يشارك فيها من هم من أبناء جلدتنا.

فلسطين – القدس المحتلة

شاهد أيضاً

الاتحاد الفلسطيني لكمال الأجسام واللياقة البدنية ينظم بطولته المركزية في بيت لحم

الاتحاد الفلسطيني لكمال الأجسام واللياقة البدنية ينظم بطولته المركزية في بيت لحم

شفا – نظم الاتحاد الفلسطيني لكمال الأجسام واللياقة البدنية، اليوم الجمعة، بطولته المركزية السنوية، في …