4:36 مساءً / 30 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

فلسطين حين تنبت المعرفة في صخر الذاكرة ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني

فلسطين حين تنبت المعرفة في صخر الذاكرة ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني

فلسطين حين تنبت المعرفة في صخر الذاكرة ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني


في هذا الفضاء، يبدو الوجود أكثر من مجرد حياة، فهو حالة مستمرة من البحث عن المعنى والتجدد. تتشابك الأحداث والتجارب، ويصبح الواقع حافزاً للتأمل، والزمان نصاً مفتوحاً على التساؤلات الكبرى حول الإنسان والوعي والمصير. كل لحظة وكل أثر من الماضي يشكل دعوة للتفكير في طبيعة التجذر، في القدرة على الصمود، وفي فعل المعرفة الذي يتجاوز حدود المادة ليصبح فعلاً وجودياً متجدّداً.


ليست الأرض هنا مجرد مساحة، بل فضاء تتجذر فيه صيرورة الوعي والوجود الإنساني. في هذا السياق، تتقاطع التجارب اليومية مع الذاكرة والتاريخ، ليصبح كل حجر وكل أثر مرآة للتأمل، وكل تحدٍ دعوة لإعادة بناء المعنى. الهوية لا تُقاس بالحدود أو التربة وحدها، بل بفعل الوعي المستمر والمقاومة الفكرية، التي تجعل الإنسان حاضراً في ذاته قبل أن يكون متجذراً في الأرض. هنا، يتعلم الإنسان كيف يحوّل التجربة اليومية إلى فعل وعي، والفقد إلى معرفة، والمعاناة إلى صيرورة حياة.


في هذا الإطار، تصبح الحياة اليومية والمكان والتاريخ نصاً مفتوحاً للمعنى، حيث يختلط الوعي بالذاكرة، والمعاناة بالأمل، والفقد بالخلق. كل رمز—من الزيتون الذي يصمد على الصخور، إلى الركام الذي يحمل فرص النهضة، وإلى المدرسة المهدمة التي تتحول إلى مختبر للحرية—يحمل دعوة للتأمل العميق في العلاقة بين الإنسان والوجود، وفي معنى البقاء وفعل الخلق المستمر رغم قيود الزمان والمكان. هنا، تتشكل فلسفة التجذر والصمود، ويصبح كل فعل تعلم وملاحظة وتأمل جسراً بين الواقع والوعي، وبين الإنسان والمعنى، لتولد رؤية متجددة للوجود تستند إلى التحدي والإصرار على استعادة الذات والمعرفة من رحم المعاناة.


الزيتون رمز الوجود والصمود


الزيتون ليس مجرد شجرة، بل تجسيد حي لفلسفة الصمود والوعي. جذوره التي تخترق الصخور لا تبحث عن الماء فقط، بل عن حضور مستمر في مواجهة النفي، وعن قدرة على الثبات حين تحاول الظروف طمس الهوية. كل ورقة من أوراقه، وكل غصن يمتد في الهواء، يحكي قصة الإنسان الذي يرفض الانكسار، الذي يصر على أن يبقى حاضراً في ذاته وفي واقعه، مهما كان الألم قاسياً، ومهما حاول الزمان اقتلاع جذوره.


في بعده الفلسفي، يتحوّل الزيتون إلى مرآة للذاكرة والمقاومة؛ فهو يعلّم أن التجذر لا يعتمد على التربة وحدها، بل على صلابة الروح، وعلى إرادة الحياة المستمرة. الصخور التي تتسلل بين جذوره لا تمنعه من النمو، بل تمنحه درساً في الصبر، وتجعل كل نموٍ صغير حدثاً وجودياً، كل ورقة جديدة شهادة على قوة البقاء. الزيتون هنا هو رمز لفعل المقاومة الذي لا ينكسر، وللوعي الذي يرفض الانطفاء، وللإنسان الذي يستمد قوته من صلابة الأرض التي يعيش عليها.


الأغصان الممتدة على الصخور، والأوراق التي تتحرك في الرياح، تصبح لغة صامتة للثبات والفعل المقاوم. إنها لغة تعلم أن الحياة والمعرفة يمكن أن تنبتا في أصعب البيئات، وأن الإنسان يمكن أن يصنع معنى وجوده من الرماد والركام، وأن الفقد لا يعني النهاية، بل بداية صيرورة جديدة من المعرفة والفهم. الزيتون يعلم أن الصبر ليس مجرد انتظار، بل فعل مستمر من إعادة بناء الذات، واستدعاء الأمل، ومقاومة النسيان.


هكذا، يتحوّل فعل الزراعة إلى خطاب وجودي، والوجود اليومي إلى تجربة معرفية متكاملة، تتجاوز حدود المادة لتصبح رمزاً للوعي والمقاومة والخلق المستمر. كل شجرة زيتون هي نص مفتوح على التأمل الكوني، وكل جذع وصخرة حولها قصة للإنسان الذي يعرف أن البقاء والفهم والمعرفة لا يُقتلعون، مهما حاولت الظروف أن تفرض العدم.


المعرفة فعل تحرر وخلق من الركام


في الركام المتبقي من مدرسة هُدمت، يرسم طفل غصن زيتون على جدار متشقق، كأنه يكتب وصية للأجيال القادمة: المعرفة ليست ترفاً، بل مقاومة. الحبر وريث الدم، والوعي امتداد للحياة في وجه العدم. فالمدرسة، حتى وهي أطلال، تظل فضاء للنهضة الممكنة، حيث يتحوّل الخراب إلى درس في بناء الإنسان.


في هذا المشهد، يتجاوز التعليم حدوده الوظيفية ليصبح فعلاً تحررياً. الطفل الذي يرسم غصن الزيتون لا يتعلم من الكتاب، بل من الخراب ذاته. يكتشف معنى الوعي كقوة لإعادة تشكيل العالم من رماده. هنا تلتقي البيداغوجيا بالوجود، والمعرفة بالمصير؛ فالتعليم في فلسطين ليس مشروعاً مؤسسياً، بل مشروع نجاة، ليس نظاماً، بل نداء. المدرسة المهدمة تصبح مؤسسة للروح، ومختبراً يولد فيه الإنسان الحر من رحم الألم.


الركام يتحوّل إلى حقل رمزي للمعنى: كل حجر مكسور شهادة على قدرة الإنسان على إنتاج الأمل، وكل جدار متصدع يفتح نافذة للضوء. كأن فلسطين تكتب وصيتها للإنسانية: “لا تتركوا المعرفة تموت في صمت الأنقاض، فحتى الغبار يمكن أن ينطق حين يؤمن بأن الوعي لا يُقصف.”


الذاكرة والفلسفة والإنسان الجديد


وحين نقترب من كتاب مفتوح على صفحة من تراب تتناثر فوقها أوراق الزيتون، نشعر أن الأرض تكتب تاريخها، لا بالحبر ولا بالكلمات، بل بالنبض الذي لا ينطفئ. هناك، بين الورق والتراب، تتداخل الأسئلة الكبرى:
هل يمكن للمعرفة أن ترمم الذاكرة؟


هل يمكن للضوء أن يستعيد للعالم ملامحه حين يغمره الغياب؟


التراب يصبح نصاً مفتوحاً، والأرض كائناً يكتب سيرته بيد الإنسان. العلاقة بين المعرفة والذاكرة جدلية؛ المعرفة ليست تراكماً للمعلومات، بل فعل تذكر مقاوم للنسيان. تُكتب الذاكرة بالمعاناة، ويُستعاد الضوء من خلال فعل التعلم ذاته. فلسفة الخلاص بالوعي تجعل التعلم أداة لاستعادة الذات من العدم.


الفلسفة الفلسطينية هي فلسفة الحضور في وجه المحو، والتجذر في وجه التيه، والبقاء كفعل من أفعال الحرية. كل شجرة زيتون نص مفتوح على تأمل كوني، وكل طفل يرسم أو يتعلم فصل جديد في كتاب الوجود الإنساني الذي تكتبه فلسطين بدمها وصبرها وحلمها.


يا شجرة المعنى، يا لغة الأرض حين تصمت البنادق، في جذورك يسكن الفجر، وفي ظلالك يتربّى الإنسان الجديد — الإنسان الذي يتعلم كيف يخلق من الألم فكرة، ومن الركام نهضة، ومن المعرفة طريقاً نحو الخلاص. وهكذا تبقى فلسطين مدرسة الوعي الأولى، حيث يتعلم العالم أن من بين الحجارة يولد الفكر، ومن بين الركام يُعاد تعريف الإنسان.


ختاماً، تظل الأرض، التاريخ، والوعي الفلسطيني مختبراً حياً لصيرورة الإنسان والمعرفة معاً. من بين الصخور والجذور، ومن بين الركام والمدرسة المهدمة، يولد الفكر، وتُستعاد الذات، ويُعاد تعريف الإنسان. المعرفة هنا ليست مجرد تراكم، بل فعل مقاومة وصيرورة مستمرة، والوجود ليس مجرد حياة، بل حضور واعٍ في مواجهة الغياب والنسيان. فلسطين تذكّرنا أن كل تجربة، وكل حجر، وكل رمز يحمل في طياته درساً للثبات والخلق، وأن الإنسان قادر على أن يحوّل الألم إلى فكرة، والفقد إلى صيرورة، والركام إلى نهضة. وهكذا تبقى فلسطين مدرسة الوعي الأولى، حيث يُتعلم أن من بين الصعاب يولد الوعي، ومن بين الركام يُعاد تعريف معنى الإنسان والوجود

شاهد أيضاً

اللواء هب الريح يشارك في ورشة عمل تشاورية حول "رؤية فلسطينية لقطاع أمني موحّد"

اللواء هب الريح يشارك في ورشة عمل تشاورية حول “رؤية فلسطينية لقطاع أمني موحّد”

شفا – شارك وزير الداخلية اللواء زياد هب الريح، اليوم الخميس، في ورشة عمل تشاورية …