1:59 مساءً / 27 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

جراح تتكلم: قراءة في نصّ “بلادي” للشاعر خلف إبراهيم ، بقلم : رانية مرجية

جراح تتكلم: قراءة في نصّ “بلادي” للشاعر خلف إبراهيم ، بقلم: رانية مرجية

ثمة نصوص لا تُقرأ، بل تُنصت لها الروح كما تُنصت لجسدٍ يتألم في العراء. نصّ خلف إبراهيم “بلادي” واحد من هذه النصوص التي لا تبوح، بل تنزف. قصيدة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تستعيد الخسارة، وتعرّي الوطن من أسمائه المزيفة، لتقول ما لا يقال: إن البلاد لم تعد لنا، وإن الجرح صار الوطن نفسه.

بلاغة الوجع ودهشة العراء

يفتتح الشاعر نصه بمشهد رمزي فادح:

والتي ستكون شاهدة ذابلة
تتدلى حسرة فوق ضريحي
تحت وطأة الرخام بلادي.

هنا تتحوّل البلاد إلى شاهد قبر، إلى شاهد “ذابِل”، لا يملك حتى الحياة ليبكي موت أبنائه. إنّها استعارة تصرخ بالصمت، وتكشف عن علاقة معكوسة بين الشاعر والوطن: فالوطن لم يعد حاضنًا، بل صار ثِقلًا من الرخام، يختنق تحته الإنسان.

في هذه الافتتاحية وحدها، تتجلى رمزية الاغتراب الوجودي والسياسي معًا — فالوطن ليس المكان، بل الجرح المفتوح على غياب العدالة، على ذاكرة مصلوبة.

بين دلالية الجرح وغواية الموت

يقول خلف إبراهيم:

أتممت لكم دلالية الجرح
ونعمة خوفي المتجدد.

هنا يرتقي النص من الخاص إلى الكوني، إذ يجعل من الجرح معنى، ومن الخوف نعمة. الجرح ليس ضعفًا بل هو الوعي، والخوف ليس جبنًا بل نبوءة. فالخوف من الطغاة في بلادٍ كهذه هو بقايا الإنسانية الممكنة، وحين يقول الشاعر “أتممت لكم دلالية الجرح”، فهو يُكمل معنى ناقصًا في التاريخ الجمعي — معنى المقاومة المتعبة التي تُصرّ على أن تشهد ولو بالأنين.

وطنٌ منسيٌّ في ليل الطغاة

أن البلاد ليلة
وخلف التلة الذئب كلب.

يضعنا الشاعر أمام انقلاب المفاهيم. فالذئب صار كلبًا، والبلاد غدت “ليلة” حالكة، تُغري بالضياع أكثر مما تُبشر بالفجر. هذه المفارقات تكشف عن وعي نقدي بالفساد البنيوي في بنية السلطة والهوية. فالطغاة، كما يقول، هم “أولياء الأمور في الموبقات”، والبلاد لم تعد وطنًا بل “علكة”، تُستهلك في خطب السياسيين وتمضغها الألسنة في المآتم.

الدمع والبرد والنبوءة

الآن أكملت لكم برودة الدمع
بصراخ أمي الذي هزَّ البلاد.

القصيدة تبلغ ذروتها هنا. فصوت الأم، الميتافيزيقي والأنثوي معًا، يهزّ البلاد التي لم تتحرك لسنوات. الأم هي آخر صوتٍ نقيّ في عالمٍ ملوث، صرختها لا تُحرّك الجيوش، لكنها تفضح صمتهم. إنها رمز الضمير الجمعي، الذي لا يزال قادرًا على الارتجاف أمام المأساة، وإن لم يغيّرها.

ختام: الوطن كشظية في القلب

خلف إبراهيم لا يكتب قصيدة سياسية، بل يرسم ميتافيزيقا الخسارة. الوطن لديه ليس خريطة بل ذاكرة محترقة، والهوية ليست انتماءً بل عبء. في زمن تتكاثر فيه الخيانات، تأتي قصيدته لتعيد تعريف الحب للوطن لا بوصفه تمجيدًا، بل بوصفه مواجهة مؤلمة مع الحقيقة.

“بلادي” ليست مرثية، بل شهادة. شهادة شاعر على زمنٍ صار فيه الرخام أكثر حياة من الإنسان.

شاهد أيضاً

قوات الاحتلال تهاجم طلبة المدارس في الخضر جنوب بيت لحم

قوات الاحتلال تهاجم طلبة المدارس في الخضر جنوب بيت لحم

شفا – أصيب عدد من طلبة مدارس بلدة الخضر جنوب بيت لحم بالاختناق، اليوم الاثنين، …