
جنّاز الورد : فلسفة الحزن وتحوّل الجمال إلى طقسٍ أبديّ ، دراسة تحليلية نقدية بقلم : رانية مرجية
المقدّمة: حين يدفن الورد نفسه
في قصيدة «جنّاز الورد» يكتب الشاعر رحيم خلف اللامي ملحمة وجدانية تستحيل فيها اللغة إلى نواحٍ مقدّس.
يُقيم مأتمًا للورد — أي للجمال ذاته — ليقول لنا إنّ الحياة ليست سوى جنّازٍ متواصلٍ للفرح،
وأنّ الفقد هو الوجه الآخر للحبّ.
العنوان وحده يحمل مفارقة مذهلة:
«جناز» يرمز للموت، و«الورد» يرمز للحياة؛ وعندما يجتمعان، يتكوّن عالمٌ شعريٌّ مشحونٌ بالتناقضات:
الجمال يموت، والموت يتعطّر بالورد.
هكذا يفتتح الشاعر سرديته الوجودية التي تتجاوز الرثاء، لتبلغ تأمّلًا فلسفيًّا في معنى البقاء والزوال.
أولًا: الورد بوصفه كائنًا سماويً
يبدأ النص بنداءٍ غريبٍ:
“جنّاز صنف الورد .. من يا ورد هل ورد
يا علي بچفك ورد يستانس بهل الورد”
في هذا النداء، يتحوّل الورد إلى كائنٍ سماويٍّ يحاور الإنسان.
ليس مجرد زهرة، بل كائن نورانيّ له روح، يعيش ويُحسّ ويُبادِل الشاعر الحديث.
الورد هنا هو الابن، وهو الحبيب، وهو اللهفة التي لم تكتمل.
اللامي يجعل من الورد مرآة للإنسان في لحظة الفقد،
فحين يذبل الورد، يذبل القلب معه.
النداء «من يا ورد هل ورد» يحمل دهشة فلسفية:
هل الورد الذي يُدفن هو ذاته الذي يُهدى؟
هل الجمال يموت أم يتناسخ في شكلٍ آخر؟
ثانيًا: الشعر بين الموت والعشق
“صعبة الهدية ترد من توصل لخلها
وروح التحوم بعشگ يم حضرتك خلها”
البيت يكشف عمق التجربة:
الموت ليس نهايةً للحبّ، بل بدايةٌ جديدة للعشق الصامت.
الروح “تحوم” — أي تبقى في فضاء المحبة، لا تغيب.
بهذا المعنى، القصيدة تطرح فكرة الخلود بالمشاعر،
فالمحب لا يُمحى بموته، بل يستمر في «تحليق الروح» حول من أحبّ.
هذا التوظيف للغة الصوفية في قالبٍ شعبيٍّ عراقيّ هو ذروة النضج الفني عند الشاعر.
يُذكّرنا بمقولة الحلاج: “أنا من أهوى ومن أهوى أنا”.
فالمحبّ والراحل يتّحدان في دائرة الخلود.
ثالثًا: المقطع الثاني – الأب الذي يرثي ابنه
“عريس شايل نعش .. والنعش شايل ورد”
هنا تبلغ القصيدة ذروة مأساويتها الجمالية.
إنه مشهد أسطوري — كأننا أمام عرسٍ يُقام في السماء.
العريس هو الابن الراحل، والنعش هو موكب الزفاف الأبديّ.
تتقاطع رموز الحياة والموت في لحظة واحدة،
حيث يتحوّل الموت إلى طقسٍ مقدّسٍ للحبّ الخالص.
“والدمعة بوسة كحل .. تطبع ابخدك ورد”
هنا تتجمّل الدموع بالكحل،
يتحوّل الحزن إلى زينةٍ، والوجع إلى لونٍ جماليٍّ أسود،
وكأنّ الشاعر يقول: حتى البكاء في غيابك جميل، لأنّه منك.
في هذا المقطع، يُولد الأسلوب الجنائزي الجمالي:
حيث يكون الرثاء صلاةً مغسولة بالعطر، لا بالدم.
رابعًا: الذنب الوجودي وطقس الاعتذار
“غلطان بوية شكثر .. ما لحگت دمعتي يمك تبوس النعش”
القصيدة تتحوّل هنا إلى اعترافٍ كنسيٍّ شعبيٍّ.
الأب يتحدّث إلى ابنه الميت كما لو كان أمام مذبحٍ سماوي.
العبارة «غلطان بوية» تتكرّر بإصرار موجع،
لتكشف عن إحساسٍ أبويٍّ بالذنب الأبديّ —
الذنب لأنّه لم يحتوِ الابن بما يكفي،
ولأنّ الفقد جاء قبل أن يُقال كلّ شيء.
الاعتذار المتكرّر ليس للابن وحده، بل للزمن، وللقدر، وللحبّ الذي تأخّر عن نجدة من يحبّ.
إنه مشهد روحيّ يُعيدنا إلى مناجاة أيوب وصبره،
لكنه هنا بنبرة الجنوب العراقي، المجبولة بالملح والدمع والتراب.
خامسًا: البنية الموسيقية – نواح الأرض وأغنية السماء
القصيدة تقوم على إيقاع التكرار والارتداد.
تكرار المفردات (ورد / نعش / كحل / غلطان / سفر / عصر)
يصنع تموّجًا صوتيًّا يشبه أنين الناي في رثاءٍ صوفيّ.
الإيقاع الداخلي لا يعتمد على الوزن العروضي بقدر ما يعتمد على
توازي النغمة والمشهد —
كل بيت يفتح جرحًا، والبيت الذي يليه يسكبه عطراً.
إنها موسيقى الموت الجميل، لا الصراخ العاري.
سادسًا: الرموز في القصيدة
الرمز
الدلالة الشعرية
البعد الفلسفي
الورد
الحياة / الابن / الحب
الجمال الذي لا يُفنى بل يتجسّد
النعش
الفقد / النهاية
العبور من الأرض إلى المطلق
الدمعة
الطهارة / الندم
الماء الذي يطهّر الروح من الخطأ
الكحل
الحزن المتجمّل
جمالية الألم واتزانه
الصبر
المقاومة الهادئة
قبول القدر دون خضوعٍ تام
كل رمزٍ في النص يتعدّى المعنى المألوف إلى المدلول الماورائي،
فيصبح الورد صلاةً، والدمعة آية، والصبر مقامًا من مقامات الفناء الروحي.
سابعًا: الزمن الملتفّ حول الحزن
“دنياك يا صاحبي رحله بأثر رحله”
الزمن في القصيدة ليس خطيًا، بل دائريٌّ يدور في حلقةٍ من الألم.
كلّ يومٍ يشبه الآخر،
وكلّ حزنٍ يعيد وجعه كأنه لم ينتهِ.
هذا الإدراك العميق لطبيعة الزمن يجعل النص أشبه بـ تأمّل وجودي في استمرارية الفقد.
ثامنًا: اللامي والشعر الشعبي كحكمةٍ روحية
رحيم خلف اللامي لا يكتب المراثي فقط، بل يُعيد تعريف الحزن بوصفه معرفة.
قصيدته ليست بكاءً على ميت، بل بحثٌ عن معنى الوجود وسط العدم.
فيها صدى من الصوفية العراقية القديمة،
وصدى من الحكاية الجنوبية، حيث الدمع له لغة، والورد له روح، والصبر له لحن.
هو شاعر يخلط التراب بالعطر،
ويجعل من لهجة الريف جسرًا إلى الماوراء.
كل كلمة في “جنّاز الورد” ليست لهجة محلية بل وجدانًا كونيًا يفهمه أي إنسان عرف معنى الفقد.
تاسعًا: الخاتمة – الورد الذي لم يمت
في النهاية، يتحوّل النص إلى صلاة هادئة:
“اشتاگيت يبني شكثر .. هلبت يجيبك حلم سنتين صار انتظر”
الحلم هو آخر خيط بين العالمين.
الأب لم يفقد الأمل بل حوّل الانتظار إلى شكلٍ من الحبّ.
إنه ينتظر ابنه لا في قبرٍ، بل في منامٍ أو طيفٍ أو وردةٍ تنبت فجأة في قلب الليل.
“جنّاز الورد” ليست قصيدة في الرثاء،
بل بيان شعريّ في فلسفة الفقد —
يُعلّمنا أن الحبّ لا يُدفن،
وأن الورد، وإن سقط في التراب،
يُزهر من جديد في ذاكرة من أحبّه.
خلاصة القول
قصيدة «جنّاز الورد»
للشاعر رحيم خلف اللامي
جنّاز الورد
كتابة .. رحيم خلف اللامي
مهداة الى أستاذي ..
الشاعر الكبير عبد الإله المنشد
المقطع الأول ..
جنّاز صنف الورد .. من ياورد هلورد
ياعلي بچفك ورد يستانس بهل الورد
معقولة من يوصلك يقبل علينه يرد
صعبة الهدية ترد من توصل لخلها
وروح التحوم بعشگ يم حضرتك خلها
خليت يم عتبتك نيشان من خلها
تذكرها من نعتني ونقره لنعشها ورد
دفان خلگ الصبر شد رحلك برحله
واتعلم من الزمن چن طالب برحله
دنياك يا صاحبي رحله بأثر رحله
والعاقل اليفتهم يتحمل شماجره
مكتوب اله بقسمته شماركض وشماجره
حلم اليجرله ابجبل بحبال وشماجره
والمايجيلك أبد لا تنتظر رحله
المقطع الثاني ..
أبا ورد .. يرثي ولده ورد
عريس شايل نعش .. والنعش شايل ورد
والدمعه بوسة كحل .. تطبع ابخدك ورد
ياورد يمته ترد .. حتى انه اعودن ورد
شو طولت ياورد بغيابك شظل بعد
متانيك بية طفل تيه رفيجه وبعد
يلتف علي الصبر بگماط ليل وبُعد
حسباله انام بحرز .. نومته آنة بورِد
ميت واگول ابسفر .. باچر يجينة العصر
وبسرعة طاح الوكت.. والعصر مسه ابفجر
صليت بلكن تجي .. وادعيت لله شكثر
كون الله يرسل ملك ويگعدك امن الگبر
حتى أبچي يمك نهر غلطان ردت اعتذر
غلطان بوية شكثر ..
ما لحگت دمعتي يمك تبوس النعش
وتكول يبني أعتذر
ملچوم بية گلب يتلاوة بجروحة
وبليلي گمرة انطفت ونجوم مذبوحة
غص ابلهاتي حزن بهموم جرحي نزف
وبوشال حظي المطر ، صبح سراب ونشف
عاباني يابني الوكت خطيته شو ونحذف
بقلام بردي وگصب طاح الحرف وانكسر
غلطان بوية شكثر ..
مالحگت دمعتي يمك تبوس النعش ..
ودم الكحل .. يعتذر
ثگلن ليالي الحزن مايوم الي تماهلن
صعبات وتعاندن واحسبهن اتساهلن
نگط سواد الكحل بعيوني من هلهلن
عريس شايل نعش يفتر علي الوكت
كلما اريد ابتشر بغيوم حزنه يكت
غلطان بوية شكثر ..
ما طاوعت دمعتي تطفالك إلا بجمر
سوس نبات العمر من الغصن للعرج
وبنار موگد جمر شجرت صبرنه توج
مگلوبي صار الوكت كلما عدل ينعوج
غلطان كلمن يظن شط الصبر مايشف
غم دنية ما تنحني بس للنذل والصلف
مضمون معنى العمر گاري اليفر چرخة
ابچم صرخة من يبتدي ومن ينتهي بصرخة
غلطان يبني شكثر ..
ظنيت طول الأمل ما ينتهي بهلعمر
مجبور بوية الدمع من يشتعل بالجفن
مادام كحل الصبر غمس سواده ابحزن
يشربني ليلي الصبر ظلمة لرعيدك مزن
يمسافر شچم جرح باقي أثر ندبته
ومطوگ بمي ورد عريس بجنازته
اشتاگيت يبني شكثر ..
هلبت يجيبك حلم سنتين صار انتظر
احسبني ما قصرت وامسح اذنوبي بعذر
معذور بوية الكحل لو نشف گد ما نزف
ومعذور ليل السمة ابكاس الظلام ارتشف
ومعذور أدك علجرح بلكن تفز ضحكتك
وتگلي بوية اصطبر
مالحگت دمعتي يمك تبوس النعش ..
وتگول يابني اعتذر
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .