4:48 مساءً / 26 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

أعطونا كل شيء.. إلا الحياة ! ، بقلم : معمر يوسف العويوي

أعطونا كل شيء.. إلا الحياة ! ، بقلم : معمر يوسف العويوي


منذ أكثر من أربعين عامًا، كتب محمد الماغوط قصيدته الساخرة، لا ليبكي زمنه، بل ليبصق في وجه زمننا قبل أن يولد. قالها بمرارةٍ لا تذوب:


أعطونا الساعات وأخذوا الزمن، أعطونا الأحذية وأخذوا الطرقات، أعطونا البرلمانات وأخذوا الحرية، أعطونا الجوامع والكنائس وأخذوا الإيمان…

كان الماغوط يعرف أن القادم لن يكون وطنًا، بل عرضًا مسرحيًا طويلًا يُعاد فيه المشهد نفسه كل عقدٍ بعناوين مختلفة.
كان يرى بألم الشاعر لا بعين السياسي، فيكتب عن الغد كما يكتب الطبيب تقرير وفاته.

“أعطونا المنابر وأخذوا الحرية”
ها نحن اليوم نعيش زمن المنابر، لا زمن الكلمة.
منابر في كل مدينة وشارع، منابر في الشاشات والهواتف والمنصات، لكنها منابر بلا ضوء، بلا صوتٍ حر، بلا حقيقة.
كلّ من يصعد منبرًا يصرخ باسم الوطن وهو يطعنه، ويتحدث عن الحرية وهو يراقبها في قفص.
نملك ميكروفونات لا تُصدر إلا الصدى، وصفحات لا تكتب إلا ما يُسمح لها أن تكتبه.
لقد غدت الحقيقة نفسها موظفًا صغيرًا في وزارة الإعلام.

“أعطونا الجوامع والكنائس وأخذوا الإيمان”
ما أكثر المآذن اليوم، وما أقلّ الضمير.
صلواتٌ تملأ الفضاء، وقلوبٌ خاويةٌ من الرحمة.
صار الدين لافتةً تُرفع في وجه الآخر لا مرآةً يرى فيها المرء نفسه.
من كثرة ما عبدنا المظاهر، نسينا الله في التفاصيل.
كأن الإيمان صار عطراً نضعه يوم الجمعة، لا سلوكاً نعيشه بقية الأسبوع.

“أعطونا البرلمانات وأخذوا الحرية”
كم يشبه الماغوط نبيًّا مرسلاً حين كتبها!
فكل عاصمةٍ عربية اليوم تملك برلمانًا مزخرفًا وأعلامًا مرفرفة، لكن لا تملك قرارها الحر.
يتحدث المسؤولون عن الديمقراطية، وهم لا يحتملون سؤالاً واحدًا من صحفي صادق.
إنها حرية من ورق، يلوّحون بها في المؤتمرات ويخفونها عن الناس في الحياة.

“أعطونا الثوار وأخذوا الثورة”
لقد تحققت نبوءته حتى في هذا.
توالت الثورات، فسرقوها باسم الأمن، وباسم الدين، وباسم الوطن.
فصار الثائر تهمة، والشهيد رقمًا، والحلم نكتة.
ولم يبقَ لنا من الثورة إلا الأغاني القديمة وصور الشهداء التي نغيّر إطاراتها كل عام

ما كتبه الماغوط لم يكن رثاءً للعصر، بل تشريحًا لأمةٍ اختارت الزخرف على الجوهر، والضجيج على الحقيقة.
كان يعرف أننا سنغرق في التفاصيل، سنعبد التقنية وننسى الإنسان، سنناضل بالكلمات وننام عند أول نشرة أخبار.

واليوم، بعد أربعين عامًا، لا نملك سوى أن نضيف إلى قائمته:
أعطونا القنوات الفضائية وأخذوا الحقيقة،
أعطونا تطبيقات التواصل وأخذوا التواصل،
أعطونا الشعارات وأخذوا الوطن.

يا محمد الماغوط…
لقد كتبتَ وجعنا قبل أن نعرف وجوهه،
وصرتَ شاهداً على زمنٍ لم تعشه، لكنه عاش فيك.
نحن أبناء المقايضة الكبرى، نملك كل شيءٍ إلا الحياة.
نصلّي، ننتخب، نغنّي، نكتب، نحلم… لكننا لا نحيا.
أعطونا الأراجيح — كما قلت — وأخذوا الأعياد،
وأعطونا اللغة، وأخذوا المعنى

يا الماغوط.. يا مرآة وجعنا لروحك السلام

شاهد أيضاً

اسعار الذهب اليوم

اسعار الذهب اليوم

شفا – جاءت اسعار الذهب اليوم الأحد 26 أكتوبر كالتالي :شراء 4111 بيع 4113