11:14 مساءً / 21 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

النقد كوعيٍ حيّ ، قراءة الإنسان في مرايا الكلمة ، بقلم : رانية مرجية

النقد كوعيٍ حيّ ، قراءة الإنسان في مرايا الكلمة ، بقلم : رانية مرجية

١. مدخل: حين يتنفّس المعنى

لم يعد النقد اليوم مجرد أداةٍ لتقويم النصوص أو تصنيفها، بل أصبح فعلاً وجوديًّا يعيد طرح سؤال الوعي الإنسانيّ من داخل اللغة.

النصّ ليس بنية لغويّة مغلقة، بل كائنٌ يتنفّس عبر قارئه، ويكتسب حياته من تلك المسافة الشفافة بين الحرف والوعي.

كلّ قراءةٍ هي حدثُ ولادةٍ جديدةٍ للمعنى، وكلّ نقدٍ حقيقيٍّ هو محاولة لاستعادة أنفاس اللغة قبل أن تتحوّل إلى عادة.

أنا لا أكتب لأُصدر حكمًا، بل لأفتح نافذةً نحو ما يتوارى خلف الجمال.

النقد بالنسبة إليّ ليس سلطةً تراقب، بل إصغاءٌ يحرّر؛

ليس تحليلًا لما هو مكتوب، بل كشفٌ لما لم يُكتب بعد.

فالنقد الذي لا يُعيد إلى اللغة دهشتها الأولى، يُسهم في موتها البطيء.

٢. النقد بوصفه وعياً كونيّاً

النقد الحقيقيّ لا يفضح النصّ، بل يُعيد إليه وعيه الأول، لحظة انبثاقه من ظلمة الإنسان إلى نور الكلمة.

إنّه ليس ترفًا فكريًّا، ولا اشتغالًا لغويًّا على الأطلال، بل رحلةٌ في كينونة الإنسان وهو يحاول أن يقول ما لا يُقال.

في كلّ نصٍّ أدبيٍّ عظيمٍ بذرةُ كَوْنٍ صغيرة، تتوسّع بقدر ما نقرأها بوعيٍ مفتوحٍ على الوجود.

القارئ هنا ليس شاهداً على النصّ، بل شريكٌ في خلقه؛

فالكلمة لا تكتمل إلا في وعينا بها، والكاتب لا يُولد إلا حين نُعيد قراءته على ضوء أرواحنا.

النقد الكونيّ هو دعوةٌ للعودة إلى أصل العلاقة بين اللغة والوجود، بين الحرف والنَفَس، بين الفكر والدهشة.

هو أن نفهم أنّ النصّ ليس فقط ما يقوله الكاتب، بل ما يوقظه فينا من أسئلة، وما يتركه فينا من أثرٍ يشبه الحنين إلى المعنى.

٣. بين الفلسفة والنفس والوجدان

لا أقرأ النصوص بعينٍ واحدة، لأنّ الإنسان ذاته كيانٌ متعدّد الطبقات.

الفلسفة تمنحني المفهوم والسؤال،

النفس تمنحني الإصغاء إلى الصمت الذي يسكن المعنى،

والوجدان يمنحني البصيرة التي ترى ما لا يُقال.

حين أقرأ نصًّا روائيًّا عن الفقد، لا أبحث فقط عن رموزه ومجازاته،

بل عن الخوف الذي يسكن بياض الصفحات، عن اللغة التي تتلعثم حين تقترب من الجرح،

وعن لحظة الانكسار التي حاول الكاتب أن يُخفيها بين البلاغة والنحو.

النقد النفسيّ ليس استجوابًا للكاتب، بل حوارًا مع هشاشته.

والنقد الوجدانيّ ليس انفعالًا ذاتيًّا، بل نوعٌ من المحبّة العاقلة،

محبّةٌ ترى الجمال في الألم، وتدرك أن ما يوجعنا هو ما يجعلنا أكثر إنسانية.

أما الفلسفة، فهي الوعي الذي يرفع الأدب من اللغة إلى الوجود،

فتُذكّرنا بأنّ النصّ ليس مجرّد خطاب، بل سؤالٌ عن معنى أن نكون.

٤. النقد كصلاةٍ فكرية

كلّ نقدٍ صادقٍ هو صلاةٌ تُؤدَّى في محراب اللغة.

أنا لا أكتب لأُقيم جدلاً أكاديميًّا، بل لأحرس توهّج النصّ من التكلّس والادعاء.

حين أقرأ قصيدةً صادقة، أشعر أنّ اللغة تركع في حضرة الحقيقة،

وأنّ الكاتب، من حيث لا يدري، يمارس فعل الخلق من جديد.

النقد الذي أمارسه هو طقسُ إصغاءٍ عميق، لا إلى النصّ فحسب، بل إلى الوجود الذي ينبض من خلاله.

فالكلمة، حين تُكتب بصدق، تتحوّل إلى كائنٍ نورانيٍّ صغير،

ووظيفة الناقد أن يحرس هذا النور من العتمة الأكاديمية ومن الاستهلاك الثقافيّ.

النقد ليس تفسيرًا للنصّ، بل رعايةٌ له؛

هو فعلُ رحمةٍ قبل أن يكون فعلَ معرفة.

لأنّ النصوص الحقيقية، مثل البشر الحقيقيين، لا تُفهم إلا بالحبّ.

٥. الإنسان بوصفه النصّ الأخير

بعد أعوامٍ من الكتابة، أدركتُ أن النصوص تُنسى،

لكنّ أثرها في وعينا يبقى، مثل رائحة الحبر بعد انطفاء الحرف.

في النهاية، لا نقرأ النصّ فحسب، بل نقرأ أنفسنا من خلاله.

الكاتب يخلق اللغة ليهرب من صمته،

والناقد يعود إلى هذا الصمت ليكتشف فيه معنى البقاء.

فكلّ عملٍ نقديٍّ حقيقيٍّ هو شهادة حياةٍ للوعي الإنسانيّ،

ومحاولةٌ لإنقاذ الإنسان من تَحوّله إلى رقمٍ أو فكرةٍ بلا روح.

النقد في جوهره مقاومةٌ ضدّ العدم،

إنه إحياءٌ دائمٌ للمعنى في وجه النسيان،

وإعادةٌ لترتيب العلاقة بين اللغة والوجود،

بين القول والسكوت، بين الفكر والقلب.

٦. خاتمة: النقد كمسؤولية حبٍّ ووعي

النقد عندي ليس مهنةً ولا تمرينًا لغويًّا،

بل موقفٌ أخلاقيٌّ من الوجود.

هو أن تؤمن بأنّ في كلّ نصٍّ نداءً خفيًّا ينتظر الإصغاء،

وأنّ الإصغاء إلى الجمال هو أحد أشكال الشكر للحياة.

الناقد الحقّ لا يعلو على النصّ، بل ينحني أمامه بتواضع العارف،

لأنّ النصّ ليس موضوعًا للبحث، بل كائنٌ للعيش.

وما لم يتحوّل النقد إلى تجربةٍ للوعي، سيبقى مجرّد حرفةٍ لغويةٍ تُعيد إنتاج الصمت.

أعظم ما في النقد أنه يُعيد إلينا دهشة البدء،

أن يُعلّمنا كيف نرى العالم بعينٍ جديدة،

أن يُذكّرنا بأنّ كلّ قراءةٍ هي تمرينٌ على أن نكون أكثر رحمة،

وأكثر قربًا من الإنسان فينا.

“النقد الحقيقيّ ليس قراءةً للنصّ، بل إنقاذٌ للروح من صمتها،
وإعادةُ الإنسان إلى مقامه في اللغة، حيث تتنفس الحقيقة عبر الجمال.”


— رانية مرجية

شاهد أيضاً

بيت لحم تحتفي بيوم التراث الفلسطيني بفعالية تؤكد دور الإعلام والفنون في صون الهوية الثقافية

بيت لحم تحتفي بيوم التراث الفلسطيني بفعالية تؤكد دور الإعلام والفنون في صون الهوية الثقافية

شفا – شاركت محافظة بيت لحم ممثلة بالأخ مراد حميد مدير دائرة الشباب والثقافة، في …