5:26 مساءً / 16 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

التجسير فنّ لكل متمكن وواعٍ ، بقلم : رانية مرجية

التجسير فنّ لكل متمكن وواعٍ ، بقلم : رانية مرجية

في عالمٍ يزداد انقسامًا، حيث تُرفع الأسوار أسرع مما تُمدّ الجسور، يصبح التجسير فعلًا إنسانيًا نادرًا، أشبه بالعبادة في زمن القطيعة.


التجسير ليس مجرد وساطةٍ بين المختلفين، بل هو فنّ الوعي الإنساني في أرقى تجلياته؛ فنّ أن ترى في الآخر امتدادك لا تهديدك، وأن تؤمن بأن الحوار لا يُضعف الحقيقة، بل يمنحها أجنحة.

الجسر كحالة وعي

التجسير فعلٌ لا يُمارسه إلا المتمكنون من ذواتهم، أولئك الذين عبروا أنهارهم الداخلية قبل أن يحاولوا عبور أنهار الآخرين.
من لا يُصالح ذاته لا يستطيع أن يُصالح العالم.


التجسير يبدأ من الداخل، من إدراكٍ أن الآخر ليس خصمًا بل مرآة تكشف مناطق الظل فينا.
وعندما نملك الشجاعة لنرى في المرآة ما يؤلمنا، نبدأ أول خطوة نحو بناء الجسر.

كل حوار حقيقي هو جسر صغير، وكل فهم عميق هو خطوة أولى نحو اللقاء.
ليس المطلوب أن نتشابه، بل أن نتوازي دون أن نصطدم، وأن نختلف دون أن نتنافر.
ذلك هو الوعي، وتلك هي المهارة التي لا يملكها إلا الحكماء.

الفنّ في الحضور والإنصات

الفنّ الحقيقي في التجسير لا يكمن في البلاغة ولا في الإقناع، بل في الإنصات الصادق.
أن تُصغي بقلبك قبل أذنك، أن تترك مساحة فيك لصوتٍ لا يشبه صوتك.
فالاستماع ليس حيادًا، بل مشاركة في الوجود.
من يُنصت لا يخسر، بل يربح رؤية جديدة للعالم.
ومن يتجسّر بالحبّ، يُدرك أن الكلمة الطيبة تُرمم ما لا يُصلحه المنطق.

الجسر لا يُبنى بالخشب والحجر، بل بالنية والنور.
وقد قال أحد الحكماء: “كل جسرٍ حقيقي يبدأ من فكرة سامية.”
فالتجسير هو أن تبني جسرًا من وعيك إلى وعي الآخر، حتى لو كان طريقه من الألم.
لأن الألم، حين يُفهم، يصبح ضوءًا يرشد، لا نارًا تحرق.

الوعي لا يولد في الضجيج

من أراد أن يكون جسرًا، عليه أولًا أن يصمت.
الصمت ليس غيابًا، بل امتلاء.
الصمت هو المكان الذي يلتقي فيه القلب بالعقل، والماضي بالمستقبل، والذات بالآخر.
وحين يصمت القلب المملوء بالحب، يُصبح قادرًا على أن يسمع نغمة الحياة في الآخرين.

التجسير إذًا ليس موهبة لغوية، بل حالة وعيٍ وسكونٍ داخلي.
هو توازن بين العاطفة والعقل، بين الذات والكلّ، بين أن أكون كما أنا وأن أقبل الآخر كما هو.
ومن استطاع أن يقف في هذا التوازن، فقد بلغ مرتبة الفنّ.

بين القوة والرقة

التجسير لا يقوم به الضعفاء.


يحتاج إلى شجاعة من نوعٍ آخر — شجاعةٍ هادئة لا تصرخ، بل تُضيء.
أن تختار الجسر لا يعني أنك تتهرب من المواجهة، بل أنك ترتقي فوقها.
أن تمد يدك لا ضعفًا بل إدراكًا بأن الانفصال خسارة للاثنين.
إن كل خطوة نحو الآخر هي في الحقيقة خطوة نحو إنسانيتنا المشتركة.

في زمنٍ تُختزل فيه الهوية في الشعارات، يصبح التجسير فعل وعيٍ متقدّم.
هو إعلان أن الإنسان أكبر من الانتماء، وأن الكرامة لا تحتاج إلى جدران لتحتمي، بل إلى جسور لتتواصل.

الجسور التي لا تهدمها العواصف

الجسور التي تُبنى بالوعي لا تهدمها العواصف.


قد تتشقق، لكنها لا تسقط.
لأنها متجذّرة في النية الصافية، وممتدة من قلبٍ مؤمن بأننا خُلقنا لنلتقي لا لنتنافر.
كلّ من جرّب مرارة الفقد والبعد يعرف أن أقسى ما يمكن أن يعيشه الإنسان هو أن يُغلق أبواب التواصل،
وأن أعذب ما يمكن أن يعيشه هو لحظة الفهم — تلك اللحظة التي يُزهر فيها جسرٌ بين قلبين.

الخاتمة:

التجسير ليس ترفًا، بل ضرورة حضارية.


في عالمٍ يميل إلى التصنيف والتباعد، نحتاج إلى من يزرع الوعي كما تُزرع الأشجار: بصبرٍ وإيمانٍ وحنان.
إنه فنّ المتمكنين من لغتهم الداخلية، أولئك الذين يعرفون أن الوعي لا يُقاس بما نعرف، بل بما نُقدّر، وبما نمنح من مساحة للآخر فينا.

فلتكن رسالتنا أن نكون جسورًا لا جدرانًا، وأن نحمل الوعي كراية لا كسلاح، وأن نُمارس الإنسانية كما نمارس التنفس:
بصدقٍ، بعفويةٍ، وبحبٍّ لا ينتهي.

لأن التجسير هو جوهر الوعي، وفنّ القلوب التي أضاءها الإدراك.

شاهد أيضاً

رئيس الوزراء : عملية إعادة إعمار قطاع غزة تحتاج حسب التقديرات الدولية نحو 67 مليار دولار

رئيس الوزراء : عملية إعادة إعمار قطاع غزة تحتاج حسب التقديرات الدولية نحو 67 مليار دولار

شفا – قال رئيس الوزراء محمد مصطفى، إن البرنامج التنفيذي للخطة العربية للتعافي وإعادة إعمار …