
معانقة الحرية بعد عمرٍ من القهر ، بقلم : محمد علوش
ها هم الأسرى الفلسطينيون يعانقون فجر الحرية بعد أن طوت أعمارهم صفحاتٍ طويلةً من القهر والحرمان في سجون الاحتلال العنصري. يخرجون اليوم من ظلمات الزنازين إلى نور الوطن، ومن ضيق الجدران الإسمنتية إلى فسحة الهواء الأول الذي يملأ صدورهم المكدودة بأنفاس الحرية.
لقد قضى هؤلاء الرجال سنواتٍ تتبدّى على وجوههم كخريطةٍ محفورة بأدقّ تفاصيل العذاب؛ وجوهٌ شاحبة لكنها مفعمة بوهج العزيمة، وأجسادٌ نحيلة أنهكها الجوع والعذاب، لكنها لم تنحنِ ولم تساوم. كلّ تجعيدةٍ في وجوههم سطرٌ من سطور المقاومة، وكلّ ندبةٍ على أجسادهم شاهدٌ على عنف الاحتلال ووحشيّته.
في القاهرة، كان المشهد مهيباً حدَّ الدموع، حيث رأينا أبا ربيعة وراسم حسين وأسامة الأشقر يستقبلون رفاقهم في الأسر، يعانقونهم كما لو أنّهم يستعيدون قطعةً من أرواحهم، وكانت العيون تفيض بمزيجٍ من الفرح والحنين، وكان العناق طويلاً كعمر الغياب. وإلى جانبهم وقفت أسرٌ فلسطينيةٌ أبعدها الاحتلال عن الوطن، لكنها بقيت تحمل الوطن في القلب والذاكرة، تتنفّسه مع كلّ خبرٍ عن أسيرٍ يتحرّر أو شهيدٍ يُشيَّع.
الحرية بالنسبة لهؤلاء ليست حدثاً عابراً، إنها ولادةٌ ثانية بعد موتٍ طويل، فالأسير الذي عاش عشرين عاماً في الأسر لا يخرج كما دخل، بل يخرج وقد صار رمزاً ومعنى، شاهداً على زمنٍ من القهر، وعلى صمودٍ لا يُقاس بالسنوات، بل بالنبض والإصرار.
سجون الاحتلال ليست أماكن اعتقالٍ فحسب، بل مصانعُ لصناعة الوعي والإرادة، وهناك، في عمق الجدران الباردة، تولد القصائد والوصايا، وتكتب الرسائل بحبر العتمة إلى أمّهاتٍ ينتظرن بصبر الأنبياء، وهناك تعاد صياغة الإنسان الفلسطيني من جديد، فيتحوّل من جسدٍ مُكبّل إلى روحٍ عصيّةٍ على الأسر.
وحين يخرج الأسرى إلى الضوء، يحملون معهم ذاكرةً من نارٍ ونور، ذاكرةً لا تمحى، وإنّ وجوههم التي حفرتها السنين هي المرايا التي تعكس وجه فلسطين الحقيقي: وطنٌ يجلَد لكنه لا ينكسر، يجاع لكنه لا يبيع كرامته، ويهجَّر لكنه لا يغادر التاريخ.
لقد حاول الاحتلال، عبر عقودٍ طويلة، أن يقتل روح هؤلاء المناضلين، لكنه فشل. فالسجن الذي بني ليكسرهم صار مدرستهم الأولى في الصمود، والمعتقل الذي خصِّص لإذلالهم صار منبراً لكرامتهم، والزنازين التي أُغلقت عليهم تحوّلت إلى فضاءاتٍ للفكر والمناقشة والحلم بوطنٍ حرّ.
واليوم، وهم يعانقون الحرية في أرضٍ غير أرضهم، وتحت سماءٍ ليست سماءهم، يحملون الوطن في العيون والذاكرة، ويتبادلون النظرات والابتسامات، وكأنهم يقولون للعالم أجمع: ها نحن، من عتمة القهر خرجنا، ومن ليل الأسر حملنا الفجر معنا.
إنّ معانقة الحرية بعد عمرٍ من السجن لا تعني النهاية، بل بدايةً جديدةً لنضالٍ مستمر، فكلّ أسيرٍ يتحرّر يفتح باباً في الجدار، ويمنح أملاً لآلافٍ ينتظرون دورهم في الحرية.
إنهم ضمير الأمة الحيّ، ومقياس إنسانيّتها، وسفراؤها الحقيقيون أمام العالم الذي أدار ظهره طويلاً لعدالتنا، وستظلّ قضيتهم علامةً فارقةً في الوجدان الفلسطيني، لأنها تختصر معنى النضال بأسمى صوره: التضحية، والإيمان، والوفاء للحرية مهما طال ليل الأسر.
هكذا يخرج الأسرى الفلسطينيون، لا كأفرادٍ يطوون صفحةً من الألم، بل كأبطالٍ يكتبون فصلاً جديداً من الحكاية الفلسطينية؛ الحكاية التي لن تُكتب نهايتها إلا حين يعانق الوطن بأسره حريته الناجزة والكاملة.