
زيارة ترامب للكنيست والمسرحية الهزلية ، مشهد من مسرح العبث ، بقلم : رانية مرجية
مدخل إلى العبث
حين يدخل ترامب الكنيست، لا يدخل رجل السياسة فحسب، بل يدخل الممثل إلى مسرحٍ مكتمل الأركان. يدخل ببدلة رسمية، وبابتسامةٍ مصنوعة، وبكلماتٍ صاغها كُتّابُ الخطابات بمهارةٍ تُتقن الكذب أكثر مما تُجيد الحقيقة. يدخل الكنيست كما يدخل الممثل إلى خشبة المسرح، وقد حُجزت المقاعد، وتوزّعت الأدوار، وحدد المخرج متى يُصفَّق، ومتى يُسكت.
هنا تبدأ المسرحية الهزلية التي لا تُضحك، بل تُبكي، لأنّها تُذكّرنا كم أصبح العالم مجرّد خشبةٍ بلا روح، والإنسان فيه دميةً تحركها مصالح عمياء.
المكان كرمزٍ والزمان كمرآة
الكنيست — ذاك البرلمان المحصّن بجدران التاريخ والدم — لم يكن مجرّد مكانٍ للخطاب، بل مرآة للضمير العالمي المتآكل.
أن يقف ترامب هناك، محاطًا بالتصفيق والابتسامات، بينما في غزة تُدفن الأمهات أبناءهنّ، وفي الخليل يُهدم بيتٌ بعد بيت، هو ذروة المفارقة الأخلاقية.
إنّه المشهد الذي يختزل السقوط الفلسفي للإنسان المعاصر: إنسانٌ يبرّر القتل باسم السلام، ويمارس الكذب باسم الحرية.
الزمان هنا ليس 2025، بل هو زمن الوعي المكسور؛ زمنٌ تاهت فيه الحقيقة بين تغريدةٍ وتصفيقة.
الرئيس والممثل: الوجهان لعملةٍ واحدة
ترامب، هذا الاسم الذي صار علامة تجارية أكثر من كونه إنسانًا، يدخل التاريخ لا كصانع قرار، بل كـ ممثلٍ بارع في تسويق الوهم.
كلّ إيماءةٍ منه محسوبة، كلّ جملةٍ صيغت لتُحدث صدى، لا لتُحدث تغييرًا.
في المسرح السياسي، الكلمات لا تُقال لتُفهم، بل لتُنسى بعد دقائق من التصفيق.
أجل، لقد أتقن ترامب دور “المخلّص الزائف”، ذاك الذي يُغدق الوعود ولا يحمل في جيبه سوى الفراغ.
ولعلّ هزل المسرحية يكمن في أنّ الجمهور — نحن — ما زلنا ننتظر الفعل بعد أن انتهى العرض.
العبث الأخلاقي في مشهدٍ متقن
حين يُحيّي النواب الإسرائيليون ترامب وقوفًا، لا نرى مجرّد طقسٍ دبلوماسي، بل نرى رقصةً على جراح الوعي.
كلّ تصفيقة هي طعنة في خاصرة الحقيقة.
كلّ ابتسامةٍ تُضاء بالكاميرات هي انطفاء شمعةٍ في بيتٍ فلسطيني مهدّم.
إنها مسرحية عبثية، لا بطل فيها سوى الزمن الخائن.
فالكلّ يمثل: السياسيّ، والمحلّل، وحتى المشاهد الصامت أمام الشاشة.
وحدها الحقيقة تخرج من القاعة باكية، عارية، تبحث عن منبرٍ لم يلوثه التصفيق.
عن الخداع الجماعي
الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو كتب أنّ “العبث يولد حين يلتقي صمت العالم اللاعقلاني بتوق الإنسان إلى الفهم”.
وهنا تكمن مأساة الزيارة: ليست في ما قيل، بل في ما لم يُقل.
في أن يظنّ الناس أن السلام يُصنع بالكلمات، بينما يُنسف بالقرارات.
في أن نعيش زمنًا نستهلك فيه الرموز كما نستهلك الإعلانات، حتى يصبح الوعي سلعةً في مزاد السياسة.
ترامب والكنيست: صورة العالم المقلوب
الزيارة ليست حدثًا سياسيًا عابرًا؛ هي أيقونة زمنٍ تافه، حيث تتحوّل الحقيقة إلى أداء، والعدالة إلى شعار.
في هذا الزمن، لا تُقاس القيم بالضمير، بل بعدد المشاهدات على البث المباشر.
تلك هي مأساة عصرنا: أن يختلط المأتم بالعرض، وأن يُسَوَّق الألم كجزءٍ من حملةٍ انتخابية.
لقد غاب سقراط، ومات نيتشه مرتين، وبقي ترامب وحده على المنصة يقول ما لا يعني، ويعني ما لا يُقال.
خاتمة: حين يسدل الستار
حين انطفأت الأضواء في الكنيست، وظنّ الجميع أن المسرحية انتهت، كانت المأساة الحقيقية قد بدأت.
لأنّ الواقع سيستمر خارج القاعة، بلا نص، بلا مخرج، بلا تصفيق.
ستواصل الأمهات البكاء، وسيواصل الأطفال الحلم، وسيواصل العالم التفرّج.
إنّ زيارة ترامب ليست حدثًا سياسيًا، بل درس فلسفيّ في سقوط الإنسان من مرتبة الفعل إلى مرتبة العرض.
فحين يغدو القتل موضوعًا للنقاش، والظلم مادةً للتصفيق، نكون قد دخلنا حقًا عصر المسرحية الكبرى:
مسرحية لا أحد فيها يضحك، ولا أحد فيها يخرج حيًّا من ضميره.