7:37 مساءً / 13 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

غزة … ، حين يصبح الصمود ..، هو آخر أشكال السياسة ، بقلم : المهندس غسان جابر

غزة … ، حين يصبح الصمود ..، هو آخر أشكال السياسة ، بقلم : المهندس غسان جابر

في كل مرةٍ يُكتب فيها عن غزة، يشعر الكاتب أنه يعيد سرد مأساةٍ يعرفها الجميع، لكنه لا يستطيع الفكاك منها.
فغزة ليست حدثًا طارئًا، بل جرحٌ مفتوح على ضمير الأمة، ومرآةٌ عارية تعكس كل ما تهشّم فينا من إرادةٍ ووحدةٍ وصدقٍ مع الذات.

اليوم، بعد عامين من حربٍ لم تبقِ شيئًا على حاله، تبدو غزة كأنها مدينةٌ خرجت من رحم العاصفة وهي تحمل سؤالها الأزلي:


هل يمكن للشعب أن ينتصر وهو محاصر من الخارج ومخذول من الداخل في آنٍ واحد؟

غزة التي تنهض من تحت الرماد

ما جرى في غزة لم يكن حربًا بالمعنى التقليدي، بل كان اجتياحًا للروح.
دُمرت البيوت، وانهارت الأحياء، وسقطت المستشفيات تحت الركام.
لكن وسط هذا الدمار، ظلّ الإنسان الغزيّ هو المعجزة التي لم تُهزم.
يستيقظ كل صباحٍ ليلمّ بقايا بيته، ويعيد ترتيب الحجارة كأنها طقوس ولادةٍ جديدة، ثم يبتسم كمن يقول للعالم: “نحن هنا… ما زلنا نعيش.”

في غزة، الحياة ليست روتينًا يوميًا، بل قرارًا بطوليًا متجددًا.


كل لحظةٍ فيها اختبارٌ لقدرة الإنسان على البقاء، على الإصرار، على تحويل الرماد إلى بدايةٍ جديدة.
ومن هذه القدرة، يولد المعنى الأكبر: أن الصمود ليس مجرد فعل دفاعي، بل موقف سياسي بحد ذاته — موقفٌ يفرض نفسه على من ظنوا أن بإمكانهم إخضاع غزة بالقوة أو تجويعها بالحصار.

خذلان الفصائل… حين يتحول الحلم إلى إدارة أزمة

لقد خذلت الفصائل غزة قبل أن تخذلها القنابل.


خذلتها حين نسيت أن المشروع الوطني لا يُبنى بالبيانات، بل بالوحدة.
خذلتها حين اختارت أن تدير الانقسام بدلاً من أن تُنهيه، وحين انشغلت بالسلطة عن الإنسان.

الناس في غزة لا يسألون اليوم من يحكمهم، بل لماذا لم يتغير شيء منذ عشرين عامًا؟
السلطة هنا والسلطة هناك، والخطاب ذاته: وعودٌ بالمصالحة، واتهاماتٌ متبادلة، ومفاوضاتٌ لا تصل إلى شيء.
أما الحقيقة فهي أن الانقسام تحوّل إلى نظامٍ كامل، يُنتج ذاته من خلال الخوف والولاء والارتهان.

وحين تفقد الفصائل ثقة الناس، تتحول المقاومة إلى ذكرى، والمشروع الوطني إلى أطلالٍ سياسية.
غزة لا تحتاج إلى فصائل تتصارع باسمها، بل إلى قيادةٍ توحّد آلامها وآمالها، وتعيد للشعب حقه في أن يكون شريكًا لا متفرجًا.

الاحتلال الجديد… اقتصاد بدل السلاح

لكن المأساة لا تقف عند حدود الانقسام.
فإسرائيل التي دمّرت غزة، تعرف أنها لا تستطيع تركها تذوب في الفوضى.
ولذلك، بدأنا نرى ملامح “احتلالٍ جديد” — احتلالٍ ناعمٍ يُمارس بأدواتٍ اقتصادية بدل الدبابات، وبإدارةٍ ماليةٍ بدل الإدارة العسكرية.

في واشنطن، تُعاد صياغة المشهد بعناية.


فالإعمار ليس عملاً إنسانيًا كما يُقال، بل صفقة سياسية تتقاطع فيها المصالح:
إسرائيل تموّل لتضمن السيطرة،
أمريكا تُشرف لتضمن النفوذ،
والعرب يُساهمون ليشتروا الهدوء المؤقت.

تلك هي “صفقة القرن” وقد عادت من جديد، ولكن بثوبٍ أكثر أناقة:


لا خرائط سياسية ولا أعلام جديدة، بل بنية اقتصادية تتحكم في الهواء والماء والمعابر والرواتب.
وهكذا، تُختزل غزة في رقمٍ على جدول المانحين، بينما يُمحى من الذاكرة أنها كانت ذات يومٍ عنوانًا للكرامة الوطنية.

الإنسان الغزي… الجندي الأخير في معركة الوعي

ومع ذلك، فإن ما لا يُدركه صناع القرار هو أن غزة ليست مجرد مساحةٍ جغرافية، بل وعيٌ جمعي لا يمكن ترويضه.
الإنسان الغزي لا يُقاتل ليُثبت البطولة، بل ليُثبت الوجود.
في كل مرةٍ يُقصف فيها بيته، يعيد بناءه بالحجارة ذاتها.
وفي كل مرةٍ يُحرم من الكهرباء والماء، يبتكر طريقته الخاصة للحياة.

هو لا ينتظر معونةً من أحد، ولا يثق ببيانات الأمم المتحدة، لأنه يعرف أن الحقيقة هناك — في عيني طفلٍ يبحث عن لعبته بين الأنقاض، وفي صرخة أمٍ فقدت أبناءها لكنها لا تزال تدعو للصبر.

ذلك الإنسان هو القضية، لا الحجر ولا الميناء ولا المطار.
فكل وطنٍ يبدأ من لحظةٍ يقرر فيها الإنسان ألا ينهزم، وغزة قررت ذلك منذ زمنٍ بعيد.

المفاوضات… حديث العواصم البعيدة

في المقابل، يتابع الغزيون أخبار المفاوضات كما يتابعون أحوال الطقس.
يعرفون أنها ستُعقد، وأنها ستفشل، وأنها ستُعاد من جديد.
فالمتفاوضون يعيشون في عواصم مكيفةٍ لا تشبه غزة لا في حرّها ولا في ليلها المقطوع.
يتحدثون عن الحلول السياسية بينما لا يعرفون كيف يعيش الناس ساعةً واحدةً بلا كهرباء.

ولذلك، لم يعد الغزي ينتظر منهم شيئًا.
هو يعرف أن مستقبله لا يُصنع في المؤتمرات، بل في الشوارع التي يعيد ترميمها بيديه.
وأن كرامته لا تُنتزع بالتوقيع، بل بالصبر والإصرار والبقاء.

غزة… اختبار الضمير العربي

غزة اليوم ليست بحاجةٍ إلى شفقة، بل إلى شجاعةٍ سياسية تعترف بأن ما جرى فيها ليس كارثة طبيعية، بل نتيجة حساباتٍ خاطئة وانقساماتٍ قاتلة.


فهي ليست فقط ضحية الاحتلال، بل أيضًا ضحية العجز العربي، وصمت المؤسسات، وخوف النخب.

لكنها، رغم ذلك، تبقى صامدة.
مدينةٌ صغيرةٌ بمساحتها، لكنها أكبر من كل العواصم التي ادعت نصرتها.
تعيش على ركامها، لكنها تصنع منه حجارة بناءٍ جديد، لأن في داخلها شعلة لا تنطفئ.

غزة هي درسٌ مفتوح في الكبرياء،


وبرهانٌ على أن الشعوب — مهما ضعفت — تبقى أقوى من جلاديها.
ومن يراها اليوم يظنها مدمّرة، لكنه لا يدرك أن في داخلها وطنًا يولد من جديد كل يوم، بصمتٍ، بثباتٍ، وبابتسامةٍ ساخرةٍ تقول:
“لم نُهزم بعد… ولن نُهزم ما دمنا نؤمن أننا أصحاب هذه الأرض.”

  • – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.

شاهد أيضاً

رئيس مجلس الدولة الصيني يلتقي رئيسة وزراء سريلانكا

رئيس مجلس الدولة الصيني يلتقي رئيسة وزراء سريلانكا

شفا – التقى رئيس مجلس الدولة الصيني، لي تشيانغ، اليوم الإثنين رئيسة وزراء سريلانكا، هاريني …