
﴿ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ … ، الفنان الشامل والأديب المبدع عماد المقداد ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
ما أروعها من آيةٍ قرآنيةٍ كريمةٍ تهزّ القلب وتُوقظ فينا أنبل القيم الإنسانية، ﴿وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾، فهي تذكيرٌ إلهيّ بأن الفضل لا يُمحى بالزمن، وأن الأثر الطيب لا تذروه رياح النسيان. في زمنٍ تتسارع فيه الخطى وتبهت فيه الملامح، يبقى الجميلون الذين يزرعون فينا العطاء والضوء علاماتٍ لا تزول، ومن هؤلاء الذين لا يُنسى فضلهم الفنان الشامل، والكاتب المبدع، والأديب المتألق عماد عبد الله المقداد.
تشرفت بالتعرّف إليه للمرة الأولى من خلال لوحته البديعة “قارئة الفنجان”، تلك اللوحة التي منحتنا أنا والأستاذ والأخ رائد عسّاف إياها مشكوراً لتكون غلافاً لكتابنا المشترك “نقرأ بإبداع.. نكتب بحب”. ما أجمل هذا الغلاف الذي احتوى روح الكتاب وأسراره! لوحةٌ تأسر الناظر من الوهلة الأولى، فيها من الجمال ما يفيض على العين، ومن الرموز ما يلامس القلب والعقل معاً. كانت كأنها قصيدة لونية تتكلم، تجمع بين العمق والأنوثة، وبين الغموض والبوح، فكل لون فيها يحكي قصة، وكل ظلّ فيها يهمس بسرٍّ من أسرار الإبداع. وعندما علمتُ أنّ إنجازها استغرق أكثر من ستة أشهر، أدركتُ أن خلف هذا الإبداع روحاً صبورةً عاشقة، ترى في الفن رسالة لا مجرد مهنة، وفي الجمال إيماناً لا مجرّد ترفٍ بصري.
ما أروع الإنسان حين يعطي من قلبه، ويهب من موهبته دون انتظار مقابل! ذلك هو الفنان المثقف حين يزرع الضوء في أرواح الآخرين، ويجعل من عطائه جسراً بين الجمال والإنسان.
ثم جاء اللقاءالثاني، أكثر دفئاً وبهاءً، في حفل إشهار كتابي المشترك مع الأستاذ رائد عساف، وهناك كان الحضور البهيّ للفنان والأديب عماد المقداد، يحمل معه تواضع الكبار وأناقة المبدعين. حضر بيننا بروحٍ نقيّة، ووجهٍ يفيض أدباً واحتراماً، ووقف بكلماته الداعمة يزرع في القاعة دفئاً من المحبة والاعتزاز. ألقى كلمةً جميلةً تفيض رقّة وصدقاً، ثم نال تكريماً يليق بعطائه الثرّ، فازددنا به فخراً وامتناناً. كان مثالاً للفنان الذي يجمع بين فرشاة الإبداع وقلم الفكر، وبين رهافة الحس وعمق التجربة الإنسانية.
إنه الفنان التشكيلي والأديب السوري عماد المقداد، المقيم في الأردن، والذي يخطّ بريشته قصص الوطن والغربة، ويجعل من الجدار لوحاً يروي التاريخ. يعمل رسام جدارياتٍ تُبهج المدن وتغسل وجوهها من غبار التعب، وأقام عدداً من الأمسيات الأدبية التي جمعت بين الفن والروح والفكر. وهو عضو في العديد من الأندية الثقافية، ووجهٌ معروف في الأوساط الإعلامية، إذ كانت له لقاءات تلفزيونية متعدّدة على الفضائيات، كان آخرها على قناة الشارقة في برنامج بيت الشعر، حيث تحدّث عن تجربته ومسيرته الفنية الغنية.
ولأن الإبداع لا يقف عند حدود، فقد أسّس مجلّتين ثقافيتين من وحي رؤيته وفكره؛ الأولى مجلة الثقافة العربية التي احتضنت الأقلام الواعدة، والثانية مجلة نورك الأدبية المتنوعة.
كما شارك في معرض عمّان الدولي للكتاب 2021 بعدد من الإصدارات الأدبية الثرية، منها:
سلسلة قصص شعرية للأطفال بعنوان سلسلة يوميات نانا للصغار في ستة أجزاء، تحمل رسائل تربوية وقيماً إنسانية رفيعة.
كتاب دراسات وقراءات في الفن التشكيلي الذي يتناول فيه أعماله وتجاربه اللونية برؤية نقدية واعية.
كتاب تعليم مبادئ الرسم – دليل المعلم والطالب الذي يجمع بين الخبرة التعليمية والإبداع الفني.
ديوان نغيمات الرحيل، وديوان آخر بعنوان ابن الشتاء.
وله كذلك كتبٌ منهجية تعليمية تُعنى بالطفل، إذ يمزج بين الرسم والكتابة في توازنٍ نادر، ليمنح الصغار والكبار معاً فناً راقياً، يفتح نوافذ الخيال، ويغذّي الأرواح بالبهجة والتأمل.
إنّ تجربة عماد المقداد ليست مجرّد سيرةٍ فنية، بل هي رحلة إنسانٍ حمل غربته في قلبه، فحوّل المنفى إلى منجمٍ من الإلهام. لم تكن الغربة عنده وجعاً ساكناً، بل كانت ناراً تُضيء لا تُحرق، ومحرّكاً لكل ما هو جميل في روحه. في الأردن وجد انطلاقته الحقيقية، فبدأ يسجّل بريشته وقلمه كلّ ما يخطر بباله من رؤى وأفكار، ليحوّلها إلى أعمال تنبض بالحياة.
هو فنانٌ حين يرسم، وأديبٌ حين يكتب، وشاعرٌ حين يصمت. يرسم الحنين كأنه صلاة، ويكتب اللوعة كأنها وردة على حافة الحلم. في فنه تتعانق الألوان كما تتعانق الأرواح، وفي أدبه تنطق الحروف كأنها طيور عائدة من سفرٍ طويل.
هكذا هو عماد المقداد؛ وجهٌ من وجوه الإبداع العربي، وفكرٌ يتخطّى حدود المكان، وروحٌ لا تعرف إلا العطاء والجمال. في كلّ ما يخطّه من خطوطٍ أو كلمات، تشعر أنك أمام إنسانٍ يرى في الفن رسالة وفي الإبداع عبادة.
تحية تقديرٍ وامتنانٍ من القلب لهذا الفنان الشامل، الذي جمع بين أصالة الشرق وشفافية الروح، وبين فكر الأديب وإحساس الرسّام. ستبقى لوحاته شاهداً على موهبته، وكلماته مرآةً لروحه، وأثره الطيب ساطعاً كنجمةٍ لا تنطفئ في سماء الثقافة العربية.

