
شفا – يأتين من زوايا مختلفة من العالم، لكنهنّ يتشاركن الشجاعة نفسها في مواجهة الصعاب والتألق في الحياة اليومية. تُعيد المرأة تعريف القوة من خلال قصصها الملهمة التي تتردد أصداؤها عبر القارات والثقافات.
تتجاوز قصصهن الحدود واللغات، لتنسج رواية جماعية عن الصمود والإبداع والأمل، تتناغم مع روح اجتماع القادة العالميين بشأن المرأة. فمسيراتهن ليست مجرد هوامش لعصر، بل هي نبض الإنسانية المشتركة.
— إنجاز أشياء صغيرة بحب كبير
وأمام متجر صغير للأشغال اليدوية يحمل اسم “بلو شيب” في مدينة تشنغدو، حاضرة مقاطعة سيتشوان جنوب غربي الصين، كان يُقام حفل وداع خاص. وكانت ضيفة الشرف هي امرأة بريطانية مُسنة تدعى راشيل غريس بينيغر، والتي كرّست العقود الخمسة الماضية من حياتها لخدمة الآخرين في الخارج.
وُلدت بينيغر عام 1945 في شافتسبري بإنجلترا لعائلة طبية، وكانت أصغر بناتها. وبعد تخرجها من جامعة بريستول عام 1968، تخلّت عن مهنة مجزية ومستقرة، وبدأت رحلتها الطويلة عبر مناطق النزاع ومناطق الكوارث في آسيا وإفريقيا، تمارس الطب وتعمل في مجال الرعاية الصحية والتعليم في 15 دولة نامية.
وفي عام 2008، جاءت إلى مقاطعة سيتشوان بجنوب غربي الصين للمساعدة في جهود الإغاثة من زلزال ونتشوان وبرامج التدريب بعد الكارثة للناجين من ذوي الإعاقة. وأثناء تفكيرها في كيفية دعمهم بشكل أكبر، استلهمت الفكرة من الأشغال اليدوية الرقيقة التي صنعوها والمفعمة بطابع القوميات، وقررت إنشاء قنوات بيع مستدامة لهم.
وفي عام 2013، أسست بينيغر متجر “بلو شيب”، وهو متجر متواضع في تشنغدو يبيع الحرف اليدوية التي يصنعها ذوو الإعاقة أو الأسر الفقيرة. وعندما طرحت فكرة فتح المتجر في البداية، حاول كثيرون ثنيها عن ذلك، قائلين: “لا تفعليها، سيفشل المشروع”. لكنها لم تتراجع، وقالت: “فكرت، حتى لو فشل بعد عام أو عامين، فليس بالأمر الكبير”.
وبعد أكثر من عقد من الزمن، لم ينجُ متجرها فحسب، بل ازدهر. إذ يعرض الآن نحو 20 ألف قطعة حرفية من 13 مجموعة قومية. وعلى مدى العقد الماضي، دعم المتجر أكثر من 1000 شخص من الأفراد المحرومين في سيتشوان.
وقالت بينيغر إن “الناس يظنون أن العمل الخيري يعني تقديم الأشياء مجانا، لكن ما يحتاجه الناس حقا هو الكرامة، أن يُنظر إليهم كأشخاص قادرين، لا أن يُشفق عليهم”. وأضافت أن رؤية الناس يكتسبون إحساسا بالقيمة الذاتية من خلال القبول، ومشاهدتهم يزدهرون عندما يحظون بالتقدير على ما هم عليه، هو ما يغير الحياة حقا.
وفي رسالة وداعها، اقتبست بينيغر قول الأم تيريزا: “لا يمكننا جميعا أن نقوم بأعمال عظيمة، لكن يمكننا أن نقوم بأعمال صغيرة بحب كبير”.
— التمكين من خلال كونها امرأة
وفي داخل مصنع مزدحم لمعالجة القهوة في كينشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية، كانت تيسيا موكونا البالغة من العمر 33 عاما تتحرك برشاقة بين صفوف محامص القهوة الصاخبة، بينما كان فستانها الزاهي الألوان يضفي لمسة حيوية على البيئة الصناعية المحيطة.
بصفتها مؤسسة شركة “لا كينواز”، والتي تعني “امرأة كينشاسا”، يُطلق السكان المحليون عليها لقب “ملكة القهوة” في بلادها.
كانت رحلة موكونا عالمية الطابع؛ فقد درست التسويق في فرنسا، وحصلت على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من شانغهاي. وكان والداها يتصوران أن تعمل في شركة متعددة الجنسيات في نيويورك، لكنها اختارت طريقا آخر، فعادت إلى وطنها مصممة على بدء مشروعها الخاص.
وفي عام 2018، وجهت اهتمامها نحو صناعة القهوة قائلة: “كوني امرأة كونغولية، أردت أن أسهم في تنمية بلدي”.
لكن ريادة الأعمال لم تكن سهلة على الإطلاق، إذ واجهت العديد من التحديات، من بينها نقص التمويل، وعدم استقرار إمدادات الكهرباء، وعدم موثوقية المعدات، وضعف البنية التحتية. وكان الأصعب من ذلك كونها رائدة أعمال.
اعترفت موكونا بأنها شكّت في البداية بنفسها كونها “فتاة جديدة” في الصناعة، مشيرة إلى أنه في مجال يهيمن عليه الرجال، كان يُنظر إليها غالبا بنوع من التسلط.
لكنها قالت: “لم يزعزعوني، بل جعلوني أقوى. في بعض الأحيان، فقط لأنني امرأة، يصبح من الأسهل على الناس أن يتذكروني. قد يأتي عشرة رجال ليقدموا قهوتهم، ولكن هناك امرأة واحدة فقط تضع زهرة على رأسها. صدقوني، في نهاية اليوم، سيتذكر الناس المرأة التي تضع زهرة”.
وبصفتها امرأة تسعى إلى إحداث التغيير وإظهار أن القهوة الكونغولية من بين الأفضل، عقدت موكونا العزم على استعادة مكانة جمهورية الكونغو الديمقراطية كأحد كبار مصدّري القهوة في العالم. وفي عام 2023، فازت قهوتها من نوع روبوستا بجائزة في المعرض الزراعي الدولي في باريس، ما أعاد الفخر والاهتمام إلى البن الكونغولي.
ومن خلال برنامجها لإحياء المزارع القديمة، قامت موكونا بتدريب المزارعين، وإحياء المزارع المهجورة، وشراء حبوب البن بأسعار عادلة. وقالت: لم يعد على الشباب أن يتجهوا إلى المدن الكبيرة للبحث عن الأمل، يمكنهم بناءه هنا من الصفر.
— الحياة أقوى من الموت
عند الفجر، كانت سمية شومر تسير في أزقة مخيم النصيرات للاجئين، ومعطفها الأبيض يرفرف كدرع في مهب الريح. ففي غزة، يُعدّ معطفها الطبي زيا رسميا ودرعا في آن واحد، تحديا هادئا وسط الدمار.
في مستشفى العودة الميداني، انطلاقا من مسؤوليتها كأم، كانت الطبيبة شومر، وهي أخصائية نساء وتوليد تبلغ من العمر 34 عاما، تُنجب الحياة وسط الأنقاض. امتزجت صرخات المواليد الجدد مع دوي القصف البعيد.
وتقول شومر لوكالة أنباء ((شينخوا)): “في مرات حملي السابقة كنت أستمتع بكل مرحلة، لكن هذه المرة أثقلني القلق بشأن صحتي ونقص الغذاء واستمرار الصراع”. وأضافت أن الطعام والدواء نادران، وحتى الراحة باتت ترفا و”أحيانا أنام وأنا أرتدي ملابس العمل”.
وقبل أن يصل حملها الحالي إلى مراحله الأخيرة، كانت تعمل أكثر من 50 ساعة أسبوعيا. والآن، تستقبل شومر يوميا أكثر من 200 حالة، كثيرات منهن نازحات ومضطربات.
وفي ضوء مصباح واحد خافت، وضعت شومر جهاز تصوير بالموجات فوق الصوتية بسيطا على بطن إحدى الأمهات، فظهرت الصورة على الشاشة واهنة لكنها نابضة بالحياة. وخارج الغرفة، امتزجت أصوات الانفجارات بصرخات المواليد الجدد، في إيقاع هش للحياة.
وقالت: “زوجي أيضا طبيب. وأحيانا نكون كلانا في المناوبة، تاركين أطفالنا وحدهم. إنها مسؤولية ثقيلة، لكننا نواصل”.
كل صرخة حياة تسمعها هي تحدٍّ لليأس، ولذلك تواصل الكفاح لإنقاذها.
قالت شومر: “مع كل ولادة، نشعر أن الأمل ما زال ممكنا، وأن الحياة أقوى من الموت. فكل طفل يولد في غزة هو رسالة مفادها أن شعبنا يتمسك بالحياة رغم كل الصعاب”.