8:27 مساءً / 14 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

الصين وميلاد نظام دولي أكثر عدلاً ، قراءة في مبادرة الحوكمة العالمية ، بقلم : محمد علوش

تطرح الصين عبر مبادرة الحوكمة العالمية رؤية متكاملة لإصلاح النظام الدولي في لحظة فارقة من التاريخ المعاصر، حيث تتشابك الأزمات وتتزايد التحديات العابرة للحدود، وحيث بات واضحاً أن المؤسسات القائمة على ميثاق الأمم المتحدة لم تعد قادرة وحدها على تلبية متطلبات العصر، فبعد ثمانية عقود على تأسيس المنظمة الدولية، ومع تصاعد التناقضات بين الشمال والجنوب، ومع تنامي النزعات الأحادية والهيمنة، تأتي هذه المبادرة لتعيد صياغة السؤال الجوهري: أي منظومة حوكمة يحتاجها العالم، وكيف يمكن جعلها أكثر عدلاً وفعالية وشمولاً؟


الورقة المفاهيمية التي عرضت المبادرة انطلقت من تشخيص دقيق للقصور في النظام الدولي الراهن، حيث أشارت إلى ثلاثة اختلالات أساسية: غياب التمثيل المنصف للجنوب العالمي في مؤسسات صنع القرار الدولي، وتآكل شرعية القانون الدولي بفعل الانتهاكات المتكررة للمعايير الأممية وفرض العقوبات الأحادية خارج إطار مجلس الأمن، ثم الضعف البنيوي في قدرة النظام القائم على مواجهة التحديات المستجدة مثل تغير المناخ والفجوة الرقمية والتنظيم القانوني للذكاء الاصطناعي والفضاء السيبراني والفضاء الخارجي، وهذا التشخيص يعبّر عن إدراك صيني لعمق الأزمة، ويعكس في الوقت نفسه طموحاً لقيادة حوار عالمي يتجاوز البنية غير العادلة التي أفرزتها الحرب الباردة وكرّستها هيمنة القوى الكبرى.


وفي مواجهة هذه الاختلالات، صاغت المبادرة ما يمكن تسميته بالالتزامات الخمسة التي تشكّل جوهر فلسفة الحوكمة الجديدة، فهي تبدأ من المساواة في السيادة باعتبارها حجر الأساس في العلاقات الدولية، حيث لا مكان لفرض الإرادة ولا لإملاءات القوة، بل حق جميع الدول في اختيار نظمها الاجتماعية ومساراتها التنموية بحرية، ثم تؤكد على سيادة القانون الدولي كضمانة أساسية، بحيث تكون القواعد واحدة على الجميع، دون معايير مزدوجة أو انتقائية، ومن هنا تأتي الدعوة إلى التمسك بتعددية الأطراف كمسار جوهري، عبر تعزيز دور الأمم المتحدة بوصفها الساحة الشرعية للتشاور والتعاون، ورفض أي صيغ بديلة قائمة على التمييز والإقصاء، لكن المبادرة لا تقف عند حدود المؤسسات، بل تضع الإنسان في مركزها عبر مبدأ وضع الشعب في المقام الأول، باعتبار أن الشعوب هي المستفيد النهائي من أي نظام حوكمة، وأن فعالية هذا النظام تقاس بمدى تلبيته لاحتياجاتها في التنمية والأمن والكرامة، وأخيراً، يتم التشديد على أن المعيار الحاسم للحوكمة هو النتائج الملموسة، أي القدرة على تقديم حلول واقعية ومستدامة للأزمات العالمية.


هذه المبادئ تعكس فلسفة الصين في إدارة الشأن الدولي، فهي لا تدعو إلى إسقاط النظام القائم ولا إلى تأسيس بديل خارج إطار الأمم المتحدة، بل إلى إصلاح تدريجي يعزز التمثيل والفعالية ويستجيب للظروف المتغيرة.


إنها رؤية إصلاحية في جوهرها، تسعى إلى إعادة التوازن بين الشمال والجنوب، وإلى فتح المجال أمام الدول النامية كي تصبح شريكاً كاملاً في صياغة المستقبل، وفي هذا المعنى، فإن مبادرة الحوكمة العالمية تمثل الإطار الناظم لبقية المبادرات الصينية الكبرى: (التنمية العالمية) التي تركز على التعاون الإنمائي، و(الأمن العالمي) الذي يدعو إلى حل النزاعات بالحوار والتشاور، و(الحضارة العالمية) التي تحتفي بالتعددية الثقافية والتبادل الحضاري، وبهذا المعنى تشكّل المبادرة الحالية البنية الفوقية التي تمنح المبادرات الأخرى سياقها المؤسسي والقيمي.


لكن رغم وضوح الرؤية، لا تخلو المبادرة من تحديات موضوعية، فالقوى الغربية المتمسكة بامتيازاتها داخل المؤسسات الدولية قد ترى في هذه الدعوة تهديداً لمصالحها، كما أن مصالح الجنوب العالمي ليست متطابقة دائماً، مما يجعل التوافق بينه مهمة معقدة، وإصلاح مؤسسات كبرى مثل مجلس الأمن أو النظام المالي الدولي يتطلب صراعاً طويلاً مع البنى الموروثة، ومع ذلك، فإن قوة المبادرة تكمن في قدرتها على التعبير عن طموحات الأغلبية الصامتة من الدول التي سئمت من نظام غير عادل، وتبحث عن إطار جديد يمنحها صوتاً ووزناً وتأثيراً.


إن المبادرة الصينية للحوكمة العالمية ليست مجرد خطاب سياسي، بل هي محاولة لصياغة فلسفة جديدة لإدارة العلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين، وهي دعوة للانتقال من منطق القوة إلى قوة المنطق، ومن نظام يكرّس التفاوت إلى نظام يعترف بالندية والتكافؤ، وفي عالم يتأرجح بين احتمالات المواجهة وحتمية التعاون، قد تمثل هذه المبادرة إحدى أهم المحاولات الجادة لفتح أفق جديد يسوده السلام والأمن والتنمية المشتركة، ويعيد الاعتبار إلى قيم الشرعية الدولية والإنسانية، ويمنح البشرية فرصة لتجاوز أزماتها نحو مستقبل أكثر إنصافاً وشمولاً.

شاهد أيضاً

اللواء ناصر البوريني يستقبل معالي وزير الأوقاف والشؤون الدينية

اللواء ناصر البوريني يستقبل معالي وزير الأوقاف والشؤون الدينية

شفا – استقبل اللواء ناصر البوريني، قائد جهاز الارتباط العسكري الفلسطيني، في مقر قيادة الجهاز …