2:39 مساءً / 4 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

في ذكرى مولد النبي محمد دروس القيادة من الحصار إلى غزة ، بقم : هاني ابو عمرة

في ذكرى مولد النبي محمد دروس القيادة من الحصار إلى غزة ، بقم : هاني ابو عمرة

ولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم في بيئة صحراوية هامشية، بعيدة عن مراكز القوة والحضارة في ذلك الزمن. الجزيرة العربية لم تكن سوى فضاء مفتت من القبائل المتصارعة، تغيب فيه سلطة الدولة، وتحكمه العصبية والمصالح الضيقة. ومع ذلك، استطاع محمد”ص” أن يغيّر مجرى التاريخ، وأن يؤسس لمشروع إنساني هائل قلب معادلات القوى في العالم. ما اريد التركيز عليه هنا ليس الجانب العقائدي الديني وحده، بل تجربة محمد “ص” كقائد: كيف أدرك ضعف أمته، وكيف حول هذا الضعف إلى قوة، وكيف بنى الإنسان أولاً قبل أن يذهب إلى مواجهة الإمبراطوريات الكبرى.

النبي محمد”ص” فهم مبكراً أن الانتصار لا يتحقق بالقوة العسكرية المجردة، ولا بالتحالفات القبلية المتغيرة، بل ببناء الإنسان القادر على حمل مشروع يتجاوز ذاته. لقد صنع من أفراد قبيلته، ومن المستضعفين الذين التفوا حوله، نواة جماعة صلبة تستمد قوتها من إيمانها العميق بحقها في الحياة والعدالة، ومن التزامها بقيم جديدة كالإيثار والصدق والوفاء. لم يكن الأمر مجرد وعظ، بل ممارسة عملية ظهرت في حياته اليومية: حين يشارك الناس جوعهم، وحين يعيش حصارهم، وحين يرفض أن يكون قائداً فوقهم. هذه التربية هي التي جعلت منهم أمة تستطيع لاحقاً أن تواجه الروم والفرس، وأن تقيم دولة قادرة على الصمود والنمو.

من أبرز محطات تجربته الحصار في “شِعب مكة”. ثلاث سنوات عاشها محمد وأصحابه تحت مقاطعة اقتصادية واجتماعية خانقة: لا طعام، لا ماء، لا تجارة، ولا حماية من العشائر. إنها لحظة تاريخية تكاد تتطابق مع ما يعيشه الفلسطينيون اليوم في غزة. الجوع، المرض، انقطاع الإمدادات، والعزلة الدولية، كلها كانت حاضرة. ومع ذلك، فإن تلك السنوات لم تفكك جماعته، بل صقلتها. فالحرمان جعلهم أكثر تماسكاً، وأكثر وعياً بأن معركتهم ليست على الخبز وحده، بل على الكرامة والحق في الوجود. هذه التجربة الحصار هي التي صنعت الشخصية التي ستقود بعد سنوات معارك بدر وأحد وفتح مكة.

في غزة، حيث يعيش الناس اليوم وسط الركام، وحيث يتحول الخبز والماء إلى حلم يومي، نستعيد صورة شِعب مكة. لكن التحدي الأكبر لا يكمن في عنف الاحتلال وحده، بل في ما يفرزه الحصار من تشوهات داخلية: سرقات، استغلال، تجار حروب، وانتهازيون يحاولون استثمار الدم والدمار لصالحهم. هنا بالضبط يجب أن نستحضر درس محمد: أن البناء الداخلي، وحماية منظومة القيم، أهم من أي شيء آخر. لو أن جماعة محمد انهارت أخلاقياً في الشعب، لما وجد مشروع لاحق ولا انتشر الاسلام كدينا .

إن معركة غزة ليست فقط بين قنابل إسرائيل وأجساد الفلسطينيين، بل بين قيم الصمود والإيثار من جهة، وقوى الانتهازية والفوضى من جهة أخرى. الاحتلال يدرك هذا، ولذلك يراهن على تمزيق النسيج الاجتماعي من الداخل بقدر ما يراهن على القصف من السماء. ولذلك، فإن مسؤوليتنا لا تقف عند حدود مقاومة العدو، بل تمتد إلى حماية أنفسنا من الانهيار القيمي، من تفكك الثقة بين الناس، ومن تحوّل المأساة إلى سوق.

محمد “ص” في المدينة قدّم مثالاً عملياً آخر حين أسس “صحيفة المدينة”، وهي أشبه ما تكون اليوم بدستور مدني يضمن الحقوق والواجبات، ليس للمسلمين وحدهم، بل لكل سكان المدينة من يهود ومشركين وغيرهم. كان يعرف أن الانتصار الخارجي مستحيل دون بناء داخلي متماسك، ودون نظام عادل يوزع المسؤوليات ويمنح الأمان لكل مكونات المجتمع. هذه الفكرة يجب أن تكون ماثلة أمامنا نحن الفلسطينيين اليوم: لا يمكن أن نواجه مشروع الإبادة الصهيونية ونحن نعيش انقسامات داخلية، أو نسمح بتغول الفوضى والأنانية. المطلوب أن نصوغ عقداً اجتماعياً جديداً يعيد الثقة بين مكونات شعبنا، ويضع أسساً للعدالة والمسؤولية المشتركة، بعيداً عن منطق الاستحواذ والانتهازية.

لقد خاض محمد معاركه الكبرى بعد أن استكمل هذا البناء الداخلي. بدر لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل اختباراً لشخصيات صاغها الحصار والجوع والصبر. أحد كانت درساً في أن الانتصار يتطلب الانضباط وعدم الانشغال بالغنائم. والفتح الأكبر، فتح مكة، كان برهاناً أن القائد العظيم لا يكتفي بالانتصار العسكري، بل يعرف كيف يحوله إلى مشروع تسامح ومصالحة، حين قال لأعدائه الذين أخرجوه وعذبوا أصحابه: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. هذه الدروس هي ما ينقصنا اليوم في غزة: أن نعرف كيف نصمد، وكيف نتعلم من الهزيمة، وكيف نحول الانتصار المستقبلي إلى مشروع وطني جامع، لا إلى ساحة انتقام أو تصفية حسابات.

الاحتلال الصهيوني اليوم يشن حرب إبادة لا تختلف في جوهرها عن الحروب التي شنتها قوى الاستعمار عبر التاريخ: الهدف ليس فقط السيطرة على الأرض، بل تدمير الإنسان الفلسطيني، عزيمته، منظومته القيمية، وأمله في المستقبل. الرد الحقيقي لا يكون فقط في المقاومة المسلحة، بل في بناء الإنسان الفلسطيني الجديد: إنسان لا يبيع جاره في السوق السوداء، لا يتاجر بدماء الشهداء، ولا يسرق قوت النازحين. إنسان يعرف أن صموده الأخلاقي هو السلاح الأول قبل البندقية.

محمد بن عبد الله لم يترك لنا فقط سيرة دينية، بل ترك درساً قيادياً عظيماً: أن الشعوب لا تنتصر إن لم تبدأ بنفسها، وأن القوة لا تُبنى من الخارج، بل من الداخل. هذا ما نحتاجه اليوم في غزة: أن نحمي إنساننا من الانهيار، أن نصون كرامتنا الداخلية، وأن نعيد صياغة مشروعنا الوطني على أسس العدالة والتكافل والصدق.

في ذكرى مولد النبي “ص”، لا نحتفل فقط بميلاد نبي، بل نستحضر قائد علم البشرية أن البناء الحقيقي يبدأ من أصعب اللحظات، وأن الأمة يمكن أن تنهض من الحصار والجوع لتصبح قوة تصنع التاريخ. فإذا أردنا أن نستلهم منه دروس المستقبل، فعلينا أن نبدأ من هنا: أن نصمد في وجه الإبادة لا بأجسادنا وحدها، بل بقيمنا، بإنسانيتنا، وبإصرارنا على أن نخرج من هذه المحرقة أمة أقوى، لا مجتمعاً ممزقاً. هذه هي المعركة الحقيقية، وهذا هو جوهر الدرس المحمدي الذي نحتاج أن نحمله معنا ونحن نكتب فصلاً جديداً من تاريخ فلسطين.

شاهد أيضاً

أبو العردات على رأس وفد من حركة "فتح" يعزي بالراحل الشهيد اللواء أبو علي طانيوس

أبو العردات على رأس وفد من حركة “فتح” يعزي بالراحل الشهيد اللواء أبو علي طانيوس

شفا – د.وسيم وني ، قام أمين سر قيادة حركة “فتح” وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية …