
زياد خدّاش وسؤال الذاكرة المراوغة في “السفر إلى كعكة القمر”، بقلم : محمد علوش
حين يكتب زياد خدّاش، لا يكتب ليؤرّخ، ولا ليدوّن مأساةً فلسطينية أُكلت أطرافها في نشرات الأخبار، بل يكتب كي يقيم بينه وبين الرماد جسراً من الخيال، وكي لا يسقط الحيّ في هوّة المنسيّ، وكتابه الجديد: “السفر إلى كعكة القمر” ليست رواية تقليدية، بل هي محاولة سردية للقبض على ظلّ قديم، هارب، ظلّ بلدة اندثرت، وطفولة لم تعش، ونداء لا يسمعه أحد غير الذاكرة.
بين الزمان واللازمان: انزياحٌ نحو المستحيل، في لحظة سردية شديدة الدهشة، ينفصل الكاتب عن زمنه البيولوجي، ويعود إلى قرية أُزيلت من الخريطة – لا ليحاكم الماضي، بل ليعيشه من جديد، ولكن، أي ماضٍ هذا الذي يُعاش بعد فواته؟ إنه ماضٍ يتخلّق مجدداً، كأنّما الزمان لدى خدّاش لا يُقاس بالساعات، بل بالحنين، وهذه ليست رحلة إلى “بيت نبالا”، بل إلى معنى “البيت” حين يصير طيفاً، وإلى “النبالة” حين تجتث وتنسى.
هايل، الشخصية البديلة للكاتب، ليس مجرد بطل روائي، بل هو قناع، هوية متشظية، وهو أيضاً آلية سردية تتقصّد الطفولة لا كمرحلة، بل كطريقة في النظر، وبالبراءة التي تستطيع أن ترى الخراب ولا تصاب باليأس، أن تشهد المجزرة دون أن تفقد الحُلم، وبهذا، يصبح “هايل” أيقونة لذات فلسطينية تبحث عن نفسها وسط الأنقاض، تتأتئ الكلام لتُخفي صراخها، وتعيش لحظة الجنون لتنجو من العبث.
ولا يكتفي خدّاش بإحياء بلدةٍ محذوفة، بل يمنحها روحاً جديدة، فيها البسطاء، العجائز، الأطفال، روائح الطعام، وقصص الحب الخفية، يوثّقها لا كما تُوثّق الوقائع، بل كما تُنقش الأساطير، وكل تفصيل في الرواية يبدو أقرب إلى تعويذة ضدّ النسيان.
بهذا المعنى، لا يمكن فصل “السفر إلى كعكة القمر” عن راهنها السياسي، فالرواية كتبت بعد عامٍ ونيّف من حرب الإبادة والتجويع ومحاولات المحو المستمرة في غزة، ومع ذلك لا ترفع راية الخطابة ولا تنغلق على الهتاف، إنها تكتب عن المجزرة دون أن تذكرها، وتستنطق الفقد بلغةٍ لا تقبل الانهيار.
وبين حبيبي وكنفاني وخدّاش نشهد حالة اكتمال السردية الفلسطينيّة، فثمّة سلالةٌ أدبية تُكمل نفسها هنا، فغسان كنفاني كتب عن الشتات، وإميل حبيبي كتب ذلك الفلسطيني الراسخ الهوية والنضال داخل الخط الأخضر، وزياد خدّاش يكتب عن الفلسطيني تحت الاحتلال، بعد أوسلو، في واقع تتجاور فيه الهزيمة واللامبالاة، لكن ما يميّز خدّاش هو أنه لا يكتب بطقس النواح، بل يكتب بطقس الخيال، كأنّما السرد عنده نقيض للنسيان، بل هو أيضاً فعلٌ مضادٌ للموت.
“السفر إلى كعكة القمر” ليست فقط نصاً سردياً، بل نصّاً تجريبياً، يقيم على تقاطع الأسطورة والعلم، الخرافة والمعرفة، الطفولة والكهولة، ويشتبك مع أدوات الفقد بنبرة هجينة، شاعرية، غير متوقعة، إنها نصٌّ يُستحق أن يُقرأ كـ “مانيفستو” لجيل أدبي جديد، لا يطلب من القارئ أن يواسيه، بل أن يصاحبه في رحلة فكرية، جمالية، وجدانية، نحو مكان لم يعد موجوداً، وزمن لا يمكن أن يعود.
في شخصية “هايل”، يتحول الحضور الفردي إلى استعارة كبرى، لا فرق هنا بين الفردي والجمعي، بين البيت والبلدة، بين الشاهد والضحية، وكل شيء يتداخل، كما في الحلم، ولذلك، فإن الرواية لا تُقرأ فقط كسردية عن بيت نبالا، بل كوثيقة داخلية عن الذات الفلسطينية حين تواجه الانكسار وتصرّ أن تقول: “ما زلتُ هنا”.
الأدب حين يُنقذ ما لا تنقذه السياسة، فحين تفشل الخُطب والمواثيق، يأتي الأدب ليردّ الغائب من منفاه، يكتبه من جديد، لا كما كان، بل كما يجب أن يكون، وهذا ما فعله زياد خدّاش في “السفر إلى كعكة القمر”، فقد منحَ للمنسيّ جسداً، وللصمت لغة، وللخراب حلماً صالحاً للعيش.
ليس في الرواية خلاص، ولكن فيها خيال، والخيال عند الأمم التي تخوض حروب الوجود، هو أول أشكال النجاة.
⦁ محمد علوش – شاعر وكاتب من فلسطين