3:26 مساءً / 1 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

الغفران ، حين يتحرر القلب قبل أن يتحرر الجاني ، بقلم : رانية مرجية

الغفران: حين يتحرر القلب قبل أن يتحرر الجاني ، بقلم : رانية مرجية

الغفران ليس فعلًا عابرًا، ولا كلمة تُقال على عجل لتهدئة الخواطر، بل هو زلزال داخلي يغيّر خرائط الروح. في لحظة الغفران، لا نُعيد الماضي إلى الوراء، ولا نمحو الألم من جذوره، بل نُقرر أن لا نبقى أسرى له. الغفران إذن، ليس هدية نمنحها للآخر، بل تحرير نمنحه لأنفسنا، كي لا نظل نُعيد تدوير الجرح ونُقيم طقوس العذاب في قلوبنا.

الغفران كقرار عقلي أم رحلة وجدانية؟

يسأل علماء النفس: هل الغفران قرار عقلاني نتخذه بوعي، أم أنه عملية وجدانية طويلة المدى؟ الحقيقة أن الغفران يبدأ غالبًا كقرار عقلي، لكنّه لا يكتمل إلا حين تلامس الروح جوهره. قد يقول أحدنا: “سامحت”، لكن قلبه ما زال ينزف. هنا يبدأ التحدي: كيف نُحوّل الكلمة إلى تجربة، والقرار إلى تحرر حقيقي؟

الغفران والهوية الداخلية

اللافت أن الغفران لا يعني بالضرورة المصالحة مع الجاني أو العودة إلى العلاقة السابقة. أحيانًا يكون الغفران فعلًا فرديًا صامتًا، لا يراه أحد، لكنه يُعيد للذات توازنها. الغفران هنا أشبه بغسل داخلي يطهّر الذاكرة من ثقلها، ويعيد صياغة الهوية بعيدًا عن دور الضحية.

الغفران كقوة علاجية

تشير دراسات علم النفس إلى أن الأشخاص الذين يمارسون الغفران يعيشون صحة نفسية وجسدية أفضل: يقل لديهم التوتر، ينخفض ضغط الدم، وتتحسن مناعتهم. وكأن الغفران ليس فقط طقسًا روحيًا، بل أيضًا علاجًا بيولوجيًا يعيد للجسد توازنه. إن الإمساك بالغضب يشبه حمل جمر في اليد، لا يؤذي الآخر بقدر ما يحرق صاحبه.

الغفران كفعل مقاومة

في مجتمعات مثقلة بالعنف والظلم، يبدو الغفران أحيانًا خيارًا مثاليًا أو حتى مستحيلًا. لكن الغفران في جوهره فعل مقاومة، لأنه يرفض أن يمنح المعتدي سلطة أبدية على النفس. حين نغفر، نحن لا ننسى الجريمة، بل نقرر أن لا نُخلّدها في داخلنا، وأن لا نسمح لها أن تحدد مستقبلنا.

أمثلة حيّة من التاريخ والأدب

نيلسون مانديلا: بعد سبعة وعشرين عامًا في السجن، خرج لا ليطالب بالثأر، بل ليرفع راية الغفران والمصالحة. قال: “حين خرجت من الباب متجهاً إلى الحرية، عرفت أنني إن لم أترك مرارتي وحقدي خلفي فسأبقى سجينًا.” هذا الغفران لم يحرر مانديلا وحده، بل حرر أمة بأكملها.

الأديان السماوية: كلها جعلت للغفران مكانة مركزية. في المسيحية نقرأ: “اغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يعلمون ما يفعلون.” وفي الإسلام: “وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.”، وفي اليهودية تكرار وصايا التسامح في نصوص الأنبياء. الغفران هنا ليس ضعفًا بل شرفٌ للروح.

الأدب: في روايات فيودور دوستويفسكي نجد الغفران كأقصى امتحان للإنسانية، إذ يُصوَّر المذنبون والمظلومون في دائرة واحدة، حيث الغفران هو الطريق الوحيد لفهم هشاشة الإنسان.

خاتمة

الغفران ليس ضعفًا كما يُظن، بل ذروة القوة الإنسانية. أن تغفر يعني أن تنجو من لعنة الماضي، وأن تُعيد صياغة حياتك بيديك لا بأيدي الآخرين. الغفران هو شجاعة الروح في مواجهة جراحها، وهو وعدٌ داخلي بأن الألم لن يكون سجنًا، بل معبرًا إلى ضوء جديد

شاهد أيضاً

السفير تسنغ جيشين سفير جمهورية الصين الشعبية لدى دولة فلسطين.

عباس زكي ينقل تهنئة الرئيس محمود عباس إلى الرئيس الصيني بالذكرى الـ 76 لتأسيس جمهورية الصين الشعبية

شفا – سلم عضو اللجنة المركزية لحركة “فتح” والمفوض العام للعلاقات العربية والصين الشعبية، عباس …