
“المسافة بين الورقة والروح” ، بقلم : ناديه كيوان
ليس كل ما يُقاس يُدرك، ولا كل ما يُوثّق يُفهم. فالشهادات التي نعلّقها على الجدران لا تعكس بالضرورة ما يسكننا من وعي، ولا تُترجم حجم الأسئلة التي خضناها في صمت الليل، ولا التجارب التي صاغت بصيرتنا بعيدًا عن القاعات والامتحانات. الفهم لا يُمنح بقرار لجنة ولا يُختم بختم رسمي؛ إنه ولادة بطيئة في أعماق الروح، تنسجها التجارب، ويصقلها الألم، وتضيئها اللحظات الصغيرة التي تُعلّمنا أكثر مما تعلّمه الكتب. إننا لا نُعرَف بما حُشي في ذاكرتنا، بل بما أبقيناه حيًّا في وعينا، قادرًا على أن يغيّرنا ويغيّر الآخرين.
قال نجيب محفوظ: “الشهادة ورقة تثبت أنك متعلم لكنها لا تثبت أبدًا أنك تفهم.”
وفي هذه الكلمات القليلة تتجلى حكمة واسعة تُميّز بين المظهر والجوهر، بين ما يُثبت رسميًا وما يُثبت إنسانيًا.
فالشهادات ليست سوى أوراق تحمل توقيعًا وختمًا، تمنح صاحبها اعترافًا اجتماعيًا بالاجتهاد والالتزام، لكنها لا تستطيع أن تكشف مقدار وعيه بالحياة أو قدرته على التفكير النقدي أو حساسيته تجاه الآخر.
الفهم شيء مختلف تمامًا عن مجرد التعلّم. أن تحفظ معلومة في كتاب أو تردد نظرية في امتحان لا يعني أنك التقطت معناها العميق. الفهم هو القدرة على الربط، على قراءة ما بين السطور، على تحويل المعرفة النظرية إلى ممارسة حقيقية تعكس نضجًا ووعيًا. هو ذلك البعد الذي لا يُقاس بدرجات ولا يُختبر في قاعة صفية، بل يتشكل عبر التجربة، الخطأ، المحاولة، والانفتاح على الأسئلة التي لا يجيب عنها المنهاج.
ولعل أكبر إشكاليات مجتمعاتنا تكمن في أننا نقيّم الإنسان من خلال أوراقه المعلّقة على الجدار، لا من خلال بصيرته. نرفع مكانة من جمع الشهادات والدرجات حتى لو كان عاجزًا عن الإبداع، ونُهمّش من كوّن فهمًا عميقًا للحياة دون أن يمتلك أوراقًا رسمية تشهد له. وهكذا صار شباب كثيرون يطاردون الألقاب أكثر مما يطاردون المعنى، ويبحثون عن المكانة بدلًا من القيمة، حتى غدت المعرفة غاية شكلية لا وسيلة لفهم أنفسنا والآخرين.
الفهم في جوهره ليس مجرد نشاط عقلي، بل هو وعي يغيّر السلوك والعلاقات. من يفهم حقًا لا يكون متعجرفًا بمعرفته، بل رحيمًا بإنسانيته. من يفهم يملك القدرة على الإصغاء، على رؤية اختلاف الآخر لا بوصفه تهديدًا، بل كنافذة جديدة لفهم الذات. الفهم هو أن نتجاوز التكديس الذهني للمعارف إلى خلق رؤية شاملة، أن نحيا بما نعرف لا أن نكتفي باستعراضه.
ولذلك فإن الفرق بين المتعلم والفاهم هو الفرق بين من يجلس في مقعد امتحان، ومن يجلس في مقعد الحياة. المتعلم قد يحصل على اعترافٍ رسمي يفتح له أبواب الوظائف، أما الفاهم فيحمل معه قدرة على بناء الجسور وتغيير الواقع. الشهادة قد تمنحك لقبًا يزين سيرتك الذاتية، لكن الفهم يمنحك حياة تستحق أن تُعاش.
إن ما قصده نجيب محفوظ ليس انتقاصًا من قيمة التعليم، بل دعوة لأن يتجاوز المرء حدود الورق الممهور إلى آفاق أوسع من التجربة والوعي. فالعلم إن لم يتحول إلى بصيرة، يظل ناقصًا.
والمعرفة إن لم تمتزج بالوعي، تصبح عبئًا لا أداة. وما نحتاجه اليوم، ليس فقط متعلمين يحفظون، بل فاهمين يصنعون معنى، ويضيفون إلى هذا العالم ما هو أعمق من شهادة وما هو أبقى من ختم رسمي.
فالفهم، في النهاية، ليس ورقة تُعلّق على جدار، بل نور يضيء الطريق في عتمة الأسئلة.
والإنسان لا يُقاس بما جمعه من شهادات، بل بما تركه من أثر، وبما حمله في قلبه من وعيٍ وحكمة.
الشهادة تعطيك اسمًا… لكن الفهم يمنحك حياة.
ناديه كيوان