
في رحاب السليمانية: بين الجبال والحنين ، بقلم : محمد علوش
كانت الرحلة من أربيل إلى السليمانية كأنها سفرٌ في قصيدة كتبت بالحجر والشجر والضوء، فالطريق المتعرج بين الجبال، كنسيم يهمس بالأسرار القديمة، يذكّرك أن للأرض ذاكرةً لا تنطفئ.
جبال شامخة تقف مثل حراسٍ عتيقين لزمنٍ لم يُروَ بعد، تذكّرني بجبال فلسطين التي تحرس القرى من أعالي نابلس إلى سفوح الخليل.
وحين لاحت السليمانية، بدت لي كعروس تتوسّد الجبال وتعانق الغيم، مدينة تشبه الوطن المؤقت، ذاك الذي يفتح قلبه للغريب المنهك، كما تفتح الأم ذراعيها للابن العائد بعد غيابٍ طويل، فقد شعرت أنني دخلت بيتاً أعرفه منذ زمن، رغم أن قدمي تطأه للمرة الأولى.
في حاراتها القديمة، كان الحجر يحتفظ بصدى الخطوات، والمقاهي الشعبية تفوح منها رائحة الشاي والذكريات، جلست في واحد منها، أرتشف شايهم المُرّ وأستمع إلى رجلٍ يعزف على الساز، فتداخلت النغمات مع أنين الناي الفلسطيني في قلبي، وفي تلك اللحظة، شعرت أن السليمانية وفلسطين تتحدان في لحنٍ واحد، لحن الحنين والوجع المشترك، لحن الحلم بالحرية.
أنا الفلسطيني، الذي كتب اسمه على رمال الانتظار، وجدت في كردستان العراق شبيهاً لبلادي، وجدتها حزينة وفخورة في آن، وعاشقة للحرية، ومتعبة من الحروب، فهنا، كما هناك، الناس يتوارثون الصبر كما يتوارثون الأغاني، ويمشون بخطوات مثقلة بالذاكرة.
يكفي أن أقول: “أنا من فلسطين”، حتى يبتسم الكرديّ، وتلمع في عينيه دمعة صامتة تشبه اعترافاً: نحن نعرفك، نعرف وجعك لأنه وجعنا.
وفي صباحٍ صافٍ، قصدت حديقة آزادي، حيث الأطفال يركضون بلا خوف، كأنهم يكتبون بأقدامهم قصيدة الحرية على عشبٍ أخضر، وهناك، تذكرت وجوه أطفال غزة، أولئك الذين لم يتسع لهم العشب ولا الحديقة، لكنهم رغم الحصار يركضون بأحلامهم في أزقةٍ ضيقة.
ومن جبل أزمر، الحارس الشامخ، رأيت السليمانية كلها منبسطة أمامي كلوحة من الضوء والبيوت، وفي الأفق، كان الغيم يعانق القمم، وكان صدى الريح يذكرني بالقدس، وكأن الجبل يسألني عن رام الله، عن طولكرم، وعن يافا البعيدة، وهنا، كان المكان يمد لي يداً من صخر، لأتشبث بها كلما ضاق عليّ وطنٌ مؤجل.
وفي السوق الكبير، حيث تختلط الروائح بالتوابل والألوان بالأقمشة المطرزة، تذكرت سوق نابلس العتيق، وسوق خان الزيت في القدس، فهناك كما هنا، يخبئ السوق في زواياه أصوات الباعة وضحكات النساء وأحلام الفقراء، وما بين نداءٍ كرديٍّ على البضاعة، وعبارةٍ عربية عن فلسطين، وابتسامة عابرة، شعرت أن الأسواق متشابهة في أرواحها، وإن فرقتها الحدود.
وحين أرخى الليل ستاره، صعدت الجبل من جديد، فأضواء السليمانية بدت من الأعلى مثل نجوم هبطت إلى الأرض لتسكن مع أهلها، فجلست أتأمل المشهد وأقول في سري: كم تشبه هذه المدينة مدننا الفلسطينية، جميلة رغم الجراح، وصامدة رغم النزيف، وكان قلبي موزعاً بين هنا وهناك، بين وردة كردستان وزيتونة فلسطين.
السليمانية ليست مجرد مدينة، إنها قصيدة طويلة، مكتوبة بالحجر والماء والدمع والفرح.
شكراً لها لأنها جعلت الغريب يشعر كأنه عائدٌ إلى بيته، ففي عيونها رأيت القدس أجمل، وفي دفئها شممت تراب فلسطين، وفي موسيقاها سمعت نشيد العودة، فالعيون نحو فلسطين، والقلوب محمولة على أجنحة الود، حتى حين نكون في حضرة مدنٍ تشبه الأحلام، نبقى نحمل الحنين كصلاةٍ لا تنتهي، ونبقى نعرف أن الأوطان الحقيقية تولد من رحم التشابه في الوجع والأمل.