1:02 صباحًا / 28 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

مرثية الغياب وانطفاء النجوم ، بقلم : غدير حميدان الزبون

مرثية الغياب وانطفاء النجوم ، بقلم : غدير حميدان الزبون

في تلك الليلة كان سقف الليل أزرقَ مكدودا مثقوب الأنفاس، يتساقط منه الرماد ويبتلع العتمة في كلّ ممر.
جلس القمر على مقعد من غيم بارد يحرس الزمان، ويطالع الأرض بعين مطفأة، وقد انطفأ في داخله ما يكفي ليمحو ملامح النور.


كلّ شيء تحت هذا السقف كان ينتظر حدثًا لم يُسمَّ، والهواء يضيق، والأرض تحبس أنفاسها قبل أن تقول السر، الريح تعوي وتضرب بشدة فتمشطُ شعرَ التلال وقلبي.


قطعتُ الجبال وحدي، والكهوف من حولي تئن بنداء غائر في صخورها، نداء لا تلتقطه إلا روح أرهقها العمر بين جدرانها وأسرارها. كانت الظلال تمتد على جدرانها، وأصوات الحجر تردّد ما انطفأ في صدري، بينما الممرات الضيقة تفتح لي قلبها العميق، وتغلقه من جديد خلفي، لتمتحن عزيمتي. واصلت المسير، والأرض تحت قدمي تزداد قسوة لتختبر قدرتي على البقاء.


هاهي الجدران السوداء تقترب، تتقلص المسافة بيني وبين قلب الجبل، والهواء يثقل كأنه يحمل إرث القرون، فكلّ حجر يمر بي يترك أثره في صدري، وكل صمت أعمق من الذي قبله.
لا ضوء هنا إلا ما ينسلّ من عروقي، ولا صوت إلا دويّ الخطوات وهي تنحت طريقها في صخرٍ لم يعرف الخضوع.
في ذلك العمق شعرت أنني أدخل تاريخاً لا تكتبه الحروف، بل تحفظه العظام في قلب الأرض.
كنتُ أسير في الطريق الحجري المؤدّي إلى الساحة الكبرى، ذلك القلب النابض للقرية، حيث كان جدي يقف ذات زمان على مصطبة عالية، صوته ينساب بين سنابل القمح كأنّه ترتيل للأرض، يغنّي للحصاد، وتجيبه الحقول بخشخشة سنابلها الذهبية.
كانت الساحة يومها مرعى للألوان وأعراس الطيور، تتسابق أسراب الحجل إليها كل فجر، بأقدامها الناعمة التي تشبه الخيوط المطرّزة على ثوب عرس قروي، وترسم دوائر الفرح على التراب المبلّل بندى الصباح، فتتعانق الحركات كرقصة كنعانية قديمة.
لكنّني اليوم وجدتها خالية، ساكنة كأنّ الزمن جفّ فيها، لا ينعشها سوى ظل زيتونة يتيمة، تتكئ على جدار من حجارة سوداء، حجارة متعبة من الحروب، علّقوا عليها صور الغائبين؛ وجوههم كأنّها نوافذ مفتوحة على غياب طويل، فراغٌ لا يُغلق، وصمتٌ يتردّد صداه في صدر المكان.
سألتُ نفسي: أين رحل الشعر؟
ذلك الصديق الذي كان يقتسم معي رغيف القمح، ويشرب من النهر قبل أن يسقي اليمام.
كنتُ أقرأ له من دفاتر غسان، ومن قصائد درويش، ومن أناشيد الجدات اللواتي يعرفن كيف يحوّلن الحزن إلى أسطورة.
لكنّ الشعر رحل، رحل وانطفأت في غيابه منابع الصوت، وجفّت ينابيع المعنى.
تفرّقت الكلمة في الجهات الأربع، وتحوّلت الأوزان إلى صمت ثقيل، فأقفلت القوافي أبوابها، وتوارى الإيقاع في عمق الأرض، وبات الفراغ هو اللغة الوحيدة التي يتردّد صداها بين الجدران.
رحل تاركا لي دفترًا أبيضَ وصفحاتٍ مرتجفة، وريشةً بلا حبر، وقال قبل أن يغيب:
“أنا أهاجرُ مع النجوم، وحين تعود أعود”.
وقفتُ أمام أطلال البيت الكبير، ذلك الذي بناه جدي حجرًا فوق حجر، وحين اكتمل السقف، رفع يديه إلى السماء وقال: “هنا ستسكن القصيدة”.
لكنّ الغرباء الذين جاءت سفنهم من وراء البحر محمّلة برائحة الملح والبارود، وطأت أقدامهم شواطئنا فأثقلت بظلّها على الصباح. لم ينتظروا أنْ يجفّ الطين على السقف، ولا حتى اكتمال بيتنا بحكايته، بل هدموه على عجل، واقتلعوا قلبه من صدره قبل أن ينبض بالحياة.
جمعوا حجارتنا قطعةً قطعة، تلك التي شربت من عرق أجدادنا ودفء مواقدنا، وحملوها بعيدًا ليقيموا منها سياجًا حول غنيمتهم، سياجًا كالقفص يطوّق أرضنا كما يطوّق السوار معصم الأسيرة.
تركوا خلفهم فراغًا، وغيومًا من غبارٍ رماديّ تتناثر فوق الذاكرة.
كان البيت حلمًا في فم الريح، فكرةً لم تكتمل جدرانها، وسماءً بلا سقف.
تقدّمت الأيام نحوه ببطء، وجاءت الأيدي تبني وتكدّس الحجارة وتسكب الطين، لكنّ المسافة بين الحلم والاكتمال ظلّت قائمة.
كلما ارتفع جدار انفتح فراغ جديد، وكلما استوى السقف جاء زمن آخر ليعيده إلى بدايته الأولى.
في الليل جاءني صوت محمود درويش من عمق الروح: “ونحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلًا”، لكنّ الحياة اليوم طريقٌ محاصرٌ بالأسلاك الشائكة، يحتاج من يمشيه أنْ يخلع قلبه من صدره ليعبر.
ثم جاءني صوت غسان مبحوحًا كريح الصحراء: “إننا نحمل أرواحنا على أكفّنا”، لكنّ الأكفّ الآن مثقوبة، تفرّ منها الأرواح كما يفرّ الماء من إناء مشروخ.
على سفح التلّ رأيت البحر في أقصى الغرب يبكي ملحًا، ورأيت الغيم يلبس السواد على موت قصيدة لم تُكتب، وميلاد قبر لم يُحفر بعد.
تذكرت أسطورة عشتار، وكيف كانت تعود من العالم السفلي لتعيد الحياة للقمح والورد، لكنْ الليلة لم تجئ عشتار، ولم ينهض القمح من غيبوبته، وبقي الورد مطروحًا على التراب شهيدا مجهول الاسم.
ثم في غفوة قصيرة جاءني الشعر في الحلم، كان يرتدي عباءةً صوفية وعلى رأسه إكليلٌ من شقائق النعمان، وفي يده كتاب من حجر.


قال لي: “كلما مات نجم يموت شاعر، وكلما مات شاعر يموت وطن”.
لكنْ إنْ ظلّت القلوب مشتعلة بالحبّ متقدة كجمرٍ في حضن الريح سيصغي الكون لنبضها كما يصغي الحقل لخطوات الندى، وستنهض النجوم من تحت التراب نهوض السنابل من رماد الحريق. ستتشقق قباب الظلام عن أنفاس من نور، وتعود للسماء حُلّتها المطرّزة بالضياء، وتفتح الأرض ذراعيها لعودة مَن ظنّوا أنّهم رحلوا بلا رجعة.
عندها سيتذكّر كلّ حجر وكلّ غصن زيتون أنّ الحبّ هو المعجزة الأولى، والوصيّة الأخيرة، وسرّ البعث الذي لا يشيخ.
يا وطني، يا نخلةَ الفرات، ويا غمامةَ الكرمل، ويا حجارةَ القدس البيضاء، ويا ظلَّ البرتقال في يافا، ويا خميلة الزعتر في جبال الخليل، كنتَ مجرّةً من قناديل الزيت تضيء قوافل العشاق من غزة إلى جنين، ومن عكا إلى صفد.
كيف رضيتَ أن تنطفئ؟


كيف سمحتَ أن تُسرق مفاتيحك وتُعلّق في أعناق الغزاة كحُليّ النصر؟
كيف أصبحتَ اسمًا في كتاب جغرافيا بعد أن كنتَ قِبلة العاشقين وأغنية المطر؟
في آخر الليل ابتلع العدمُ حدود الكون، فوقفتُ على التلّ ومددت يدي نحو السماء أحاول إمساكها؛ لكنّني لم أجد نجمة، انطفأت، ثمّ توهج قلبي كجمرة صامتة، وجاءني صوتٌ حادّ من عمق الأرض ينبض: “امكثي ما دام الجذر يبحث عن مائه، وما دامت الحجارة تحفظ أسماء من مرّوا عليها.
لا تغلقي الباب قبل أن يفتح التراب فمه للنور، ولا تغادري قبل أن تستعيد الريح لغتها الأولى، وقبل أن يعود للخطى أثرها فوق الدروب القديمة، فإنْ غابت النجوم عن العيون، فهي لا تغيب عن الذاكرة، ومهما تناثر الوطن في المنافي يبقى حيًّا في صدر من يحمله، وإنْ حاصر الظلام الحلم سيبقى مستيقظًا في عين الطفل حتى لو نام العالم”.
صرختُ في الخلاء: “عودوا، أيا أنوار روحي.
عودوا ولو كنتم ذرات متفرقة؛ فالريح إذا هبّت من جهة الحقّ توقد الرماد.
عودوا، فالشعر صمت، والوطن زمن معلق بين ليلين.
عودوا، لعلّ الحب ينهض في عودتكم، وإذا نهض الحب استعاد الوطن قلبه، وإذا استعاد قلبه وُلدت القصيدة، وولدت الشمس من رحم الفجر”.
فجأة سكنت الريح، وشعرتُ أنّ الأرض تحت قدمي تخفق، وقلبها يتهيأ للنهوض. رفعت بصري فلم أرَ نجومًا، لكنّي أبصرتُ في عتمة السماء بذور ضوءٍ صغيرة، هي وعدٌ لم يحن أوانه بعد.


كانت الحجارة القديمة تُعيد بناء البيت، والسنابل المطمورة تُنبت حقولها في صمتٍ عميق.


توقف الزمن برهة فأدركتُ أنّ الليل ليس نهاية، هو رحمٌ يختمر فيه الفجر، ومهما توارى الوطن في الأزمنة البعيدة سيمضي في مساره السرّي نحونا، كما نمضي في مسارنا الخفي نحوه حتى تنفرج الأزمنة وتفتح بوابة الحلم، فنلتقي عند نقطة الخلق الأولى حيث بدأت الحكاية ولم تنتهِ.

شاهد أيضاً

اللواء محمد الخطيب يوقع مذكرة تفاهم مع مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن لتعزيز مبادئ الحكم الرشيد وسيادة القانون

اللواء محمد الخطيب يوقع مذكرة تفاهم مع مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن لتعزيز مبادئ الحكم الرشيد وسيادة القانون

شفا – عقد اليوم في مقر جهاز الاستخبارات العسكرية اجتماع موسع ضم وفداً من مركز …