
“الوديعة المنهوبة ، القصة المخفية لأموال فلسطين في خزائن بريطانيا ” ، بقلم : المهندس غسان جابر
في أقبيةٍ باردةٍ تحت أحد مباني لندن العتيقة، حيث تتكدس وثائق الإمبراطورية العجوز وملفاتها الغامضة، ترقد أموال الفلسطينيين المنهوبة. ودائع مالية أودعتها حكومة فلسطين الانتدابية في الخزينة البريطانية قبل عام 1948، كانت تُعدّ آنذاك حجر الأساس لاقتصاد وطني واعد، فإذا بها تتحول، بعد النكبة، إلى رمزٍ لسرقة تاريخٍ بأكمله.
لم تكن تلك الودائع مجرد أرقام في دفاتر مالية، بل كانت ثمرة جهد شعبٍ عمل ودفع الضرائب وحلم بقيام دولته. لكن عندما انسحبت بريطانيا من فلسطين، حملت معها مفاتيح الخزائن، وتركت وراءها أرضًا محتلة وحقوقًا مالية مجمدة لا تزال حتى اليوم حبيسة الوثائق السرّية والخطابات الدبلوماسية.
إرث استعماري في ثوب مالي
الاستعمار البريطاني لم يكتفِ بمصادرة الأرض والقرار، بل ترك وراءه إرثًا ماليًا مظلمًا. فودائع فلسطين التي كانت مودعة لدى بنك إنجلترا، لم تُعد إلى أصحابها بعد انتهاء الانتداب، وتحوّلت إلى ما يشبه “وديعة منسية” في ذاكرة العالم. ومع قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، اختفت آثارها تدريجيًا من السجلات العلنية، وكأنها لم تكن يوماً.
لكن وثائق عديدة، وشهادات لمسؤولين ماليين بريطانيين سابقين، تؤكد أن هذه الأموال ما زالت قائمة ضمن حسابات خاصة في وزارة الخزانة البريطانية، وأن لندن ترفض الإفصاح عنها بذريعة “التعقيد القانوني”. والحقيقة أن بريطانيا تخشى فتح هذا الباب، لأنه قد يجرّ وراءه ملفات نهب واستعمار لم تُغلق بعد.
بريطانيا… الخصم والحكم
المفارقة أن بريطانيا، التي كانت وصيّة على فلسطين، أصبحت اليوم الخصم الذي يحتفظ بودائعها. فهي تملك الوثائق والمفاتيح، وتتحكم بموقعها كعضو دائم في مجلس الأمن، حيث يمكنها استخدام “الفيتو” لإحباط أي قرار دولي يلزمها بإعادة الأموال.
لكن بريطانيا تخشى أيضًا من شيء آخر: أن تتحول هذه القضية إلى عنوان عالمي للعدالة التاريخية، كما حدث مع قضايا نهب الذهب الإفريقي واستعادة الآثار من المتاحف الأوروبية.
من الصمت إلى الفعل
لقد حان الوقت لكسر الصمت حول هذه القضية. يجب أن تتحول الودائع الفلسطينية إلى قضية رأي عام وطني ودولي، لا أن تبقى ملفًا غامضًا على رفٍّ من رفوف وزارة الخارجية. فاسترداد هذه الأموال ليس مطلبًا ماليًا فحسب، بل استعادة لكرامةٍ وطنيةٍ غُيّبت، واعترافٍ بحقٍ سُلب من شعبٍ بأكمله.
حين يدرك الفلسطينيون أن أموالهم المنهوبة في لندن يمكن أن تموّل مشاريع إسكان في غزة، أو مستشفيات في القدس، أو مصانع في الخليل، سيصبح الصمت خيانة، والمطالبة واجبًا.
خارطة طريق الاسترداد
تحتاج السلطة الفلسطينية إلى استراتيجية ذكية، متعددة الجوانب، لمواجهة هذا الملف الشائك:
- التحرك في مجلس الأمن الدولي، رغم إدراك احتمالية الفيتو البريطاني، بهدف وضع بريطانيا في مواجهة علنية مع مسؤولياتها الأخلاقية.
- نقل القضية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يمكن استصدار قرار يقرّ بحق الشعب الفلسطيني في استرداد أمواله المحتجزة.
- بناء تحالفات دولية وإعلامية، تربط بين قضية الودائع الفلسطينية وقضايا العدالة الاستعمارية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
- التحرك القانوني أمام المحاكم الدولية والبريطانية، اعتمادًا على وثائق الانتداب وسجلات وزارة المالية الفلسطينية قبل عام 1948.
- إطلاق حملة إعلامية ودبلوماسية عالمية، تجعل من هذه القضية رمزًا للمطالبة بالعدالة الاقتصادية للشعوب المستعمَرة.
المال كمعنى للكرامة
الحديث عن استرداد الودائع الفلسطينية لا يدور حول أموالٍ فقط، بل حول الذاكرة الوطنية ذاتها. كل جنيه إسترليني مودَع في خزائن لندن هو شاهد على قصة شعبٍ لم يمت رغم محاولات محوه.
استرداد تلك الأموال يعني استعادة جزء من الكرامة، تمامًا كما فعلت الدول التي طالبت بذهبها وآثارها من المستعمر القديم.
ما وراء الأرقام
تقديرات غير رسمية تشير إلى أن حجم تلك الأموال، مع الفوائد القانونية المتراكمة، قد يصل إلى مئات المليارات من الدولارات. ولو أُعيدت هذه المبالغ اليوم، لأمكن استخدامها في تمويل مشاريع البنية التحتية والتعليم والصحة، وتخفيف الاعتماد على المساعدات الخارجية التي ترهن القرار الوطني.
لكن الأهم من ذلك، أن استردادها سيكون بمثابة اعترافٍ دوليٍّ جديد بشرعية الحقوق الفلسطينية، وردٍّ رمزيٍّ على قرنٍ من الإنكار السياسي والاقتصادي.
نقول: العدالة لا تموت
ربما لا تملك فلسطين اليوم جيشًا اقتصاديًا يقاتل بريطانيا في أسواق المال، لكنها تملك ما هو أعمق: حقها التاريخي، وإرادتها التي لم تُكسر.
الودائع الفلسطينية ليست مجرد قضية مالية قديمة، بل معركة من معارك التحرر الوطني، تُخاض بلغة القانون والعدالة والرأي العام العالمي.
إن ما تخشاه بريطانيا ليس الخسارة المالية، بل انكشاف التاريخ. فحين يُفتح هذا الملف على طاولة الأمم المتحدة، سيضطر العالم إلى مواجهة حقيقةٍ طال إنكارها: أن الاستعمار لم ينتهِ، بل ما زال قائمًا في دفاتر البنوك وسجلات الخزائن.
استرداد الودائع الفلسطينية هو خطوة نحو استعادة العدالة، والعدالة هي الطريق الأقصر نحو الحرية.
ومن يسأل عن الوديعة اليوم، لا يبحث عن المال فقط، بل عن فلسطين نفسها.
- – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.