
وجعٌ يُنبتُ قمحاً…! قرآءة أدبية رائعة ومؤثرة للنص والتحليل النقدي العميق للأستاذ الفاضل الشاعر والأديب والناقد الأدبي ا. عادل جوده ، بقلم: د. عبد الرحيم جاموس
وجعٌ يُنبتُ قمحاً…! نصّ بقلم: د. عبد الرحيم جاموس قرآءة أدبية رائعة ومؤثرة للنص والتحليل النقدي العميق للأستاذ الفاضل الشاعر والأديب والناقد الأدبي ا. عادل جوده المحترم له كل التحية والتقدير والاحترام والمحبة والشكر الجزيل.
هذا زمانُ الوجعْ…
توجَّعْ يا قلبي كما تشاءُ،
فقد صارَ النزيفُ طقساً يومياً،
وصارتْ المقابرُ …
دفترَ الحضورِ والغيابْ….
هذا زمانُ الخَمنجعْ،
حيثُ تختلطُ الأصواتُ …
بالضوضاءِ،
والخطاباتُ بالهذيانْ،
وحيثُ يتاجرُ الباعةُ …
بأحلامِ الطفولةِ …
ويُقايضونَ الدمَ بالوهمِ،
والوطنَ بالسرابْ…
توجعْ لوحدك،
فلا أحدَ يسمعُ أنينَكَ …
في ضوضاءِ الطبولِ،
ولا أحدَ يقرأُ وجعَكَ …
في عيونِ الصمتْ…
لقد صاروا يرقصونَ …
على ركامِ البيوتِ،
ويُصفّقونَ في جنازاتِ الحقيقةِ،
وكأنَّ الخرابَ عيدٌ …
والقهرَ نشيدٌ …
والدمَ…
ماءٌ مسكوبٌ ..
على رملِ النسيانْ…!
لكن…
لا تيأسْ يا قلبي،
فالجرحُ حينَ ينزفُ …
يفتحُ بابَ حياةٍ جديدة،
والأرضُ مهما احترقتْ،
لا بدَّ أن تُنبتَ قمحَها من جديدْ…!
فلسطينُ لا تنحني،
والإنسانُ فيها …
يولدُ من رمادِ القصفِ …
عنقاءَ لا تموتْ،
والحريةُ مهما غُيّبتْ في زنزانةٍ …
لا بدَّ أن تعودْ…
فالغدُ قادمٌ،
ولو تأخر،
وسيُزهرُ الربيعُ …
على صخورِ هذا الزمنِ الموجوعْ….!
د.عبدالرحيم جاموس
الرياض/الخميس
21/8/2025 م
بسم الله الرحمن الرحيم
قراءة أدبية في نص “وجعٌ يُنبتُ قمحاً…!” للدكتور عبد الرحيم جاموس
يمثل هذا النص نموذجاً للشعر المقاوم الذي يمتزج فيه الألم الراهن بالأمل المستقبلي ويختلط فيه الحزن على الواقع المرير بالإصرار على التحدي والبقاء.
وهو نصٌ تحمل كلماته دماء الواقع وجمر الآمال معاً.
أولاً: على مستوى البناء الفني والأدوات:
١ – العنوان:
يحمل العنوان مفارقةً عظيمةً تجسد روح النص كاملة: “وجعٌ يُنبتُ قمحاً”.
فالقمح رمز الحياة والخصب والغذاء ينبت من رحم الوجع مما يشي بفلسفة تحويل المعاناة إلى طاقة إيجابية تخلق الحياة من وسط الموت.
٢ – اللغة والصور الشعرية:
تعتمد لغة النص على:
— الانزياح الدلالي القاسي:
لخلق صورة الواقع المأساوي:
”النزيفُ طقساً يومياً”، “المقابرُ دفترَ الحضورِ والغياب”، “الخرابَ عيد”، “القهرَ نشيد”.
هذه الانزياحات تحول الأفعال والظواهر المروعة إلى جزء من “طقس” الحياة اليومي، مما يضاعف من فظاعتها ويعكس حالة التطبيع مع الموت والدمار.
— التضاد (الطباق):
يُستخدم التضاد لنقل حدة التناقض في المشهد: (الوجع / القمح)، (الضحك / الجنازات)، (الدم / الماء المسكوب على النسيان)، (الاحتراق / الإنبات).
هذا التضاد يخلق إحساساً بالصراع الداخلي والخارجي الذي تعيشه الذات الشاعرة.
— الاستعارة والتشخيص:
يتم تشخيص القلب (يا قلبي) والحريّة والغد، مما يضفي عليها قوةً وحياةً تجعل الحديث عنها أكثر تأثيراً.
كما تستخدم استعارات قوية مثل “عنقاءَ لا تموت” للدلالة على الشعب الذي يولد من رماد الدمار.
—الإيقاع:
يتميز النص بإيقاع داخلي متوتر، يعكسه التكرار (“توجَّعْ يا قلبي”)، والفواصل القصيرة التي تشبه الأنفاس المتقطعة، ثم الانتقال إلى جمل اطول وأكثر اطمئناناً عند الحديث عن الأمل (“لكن… لا تيأسْ يا قلبي”).
ثانياً: على مستوى المضامين والأفكار:
١ – تشريح الواقع المرير:
يرسم النص لوحةً كابوسيةً للواقع، حيث يختلط الحلم بالهذيان، ويُتاجر بالدم والوطن، ويصبح الصخب والضوضاء غطاءً على أنين الألماء.
إنه تصوير لزمن انقلبت فيه المفاهيم وصار الخراب مناسبة للاحتفال.
٢ – الاغتراب والوحدة:
يؤكد النص على عزلة الألم في هذا الزمن:
“توجعْ لوحدك، فلا أحدَ يسمعُ أنينَكَ”.
هذه العزلة لا تنبع من قلة الناس، بل من صخبهم ورقصهم على الأنقاض، مما يجعل ألم الذات المنكوبة أكثر حدةً ووحشة.
٣ – فلسفة الألم المقاوم:
هذه هي النقطة المركزية في النص.
فالألم هنا ليس عاجزاً سلبياً، بل هو ألمٌ منتجٌ ومقاوم. إنه نفس الألم الذي “ينبت قمحاً”.
الجرح النازف “يفتحُ بابَ حياةٍ جديدة”، والأرض المحترقة “لا بدَّ أن تُنبتَ قمحَها”.
هذه هي نفس فكرة “الانكسار الطاهر” في نص “خيبات”، لكنها هنا أكثر ارتباطاً بأرض وشعب محدّدين (فلسطين).
٤ – رمزية فلسطين والصمود:
يتحول النص من العام إلى الخاص صراحة في المقطع الأخير، ليصبح خطاباً مباشراً لفلسطين.
إنها “لا تنحني”، وشعبها “عنقاءَ لا تموت”، وحريتها المغيّبة “لا بدَّ أن تعود”.
هذه ليست مجرد صور بل هي تأكيد على حتمية النصر وخلود الأرض والمقاومة، مستمدةً قوتها من سنن الحياة ذاتها (الربيع يزهر على الصخور).
خاتمة:
”وجعٌ يُنبتُ قمحاً” هو أكثر من مجرد قصيدة…
إنه نشيدٌ جنائزيٌّ لأحلامٍ تموت، ونشيدٌ انتصاريٌّ لأخرى ستولد.
النص يقدّم مأساة إنسانية بكامل أبعادها، لكنه يرفض أن يكون مرثيةً خالصة، ليكون في الوقت نفسه بياناً في مقاومة اليأس وتبشيراً بحتمية الحياة والانتصار. وهو بذلك يستحضر تراثاً شعرياً مقاوماً طويلاً، ويضيف إليه بصوته الخاص المؤلم والمتحدي في آنٍ واحد.
تحياتي واحترامي
ا. عادل جوده