7:33 مساءً / 18 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

لا تغريبة بعد اليوم ، قراءة في الملحمة الشعرية لعبد الناصر صالح ، بقلم : محمد علوش

لا تغريبة بعد اليوم ، قراءة في الملحمة الشعرية لعبد الناصر صالح ، بقلم : محمد علوش

في قصيدته “لا تغريبةٌ أخرى تلوذُ بنا” المنشورة في مجلة “أدب ونقد” المصرية في عددها “44 مايو 2025” يفتح الشاعر عبد الناصر صالح باباً شعرياً عريضاً على الذاكرة الفلسطينية والوجع الجمعي، لكنه لا يغلقه على الحزن، بل يدفعه إلى الأفق الرحب حيث يتكوّن المعنى الملحمي وتنهض الكلمة إلى مصافّ الفعل المقاوم.


منذ اللحظة الأولى، حين يفتتح النص بمشهد البحر الذي “يبتلعُ الرصاصَ” ويصون دماء الضحايا، يدرك القارئ أنه أمام قصيدة لا تكتفي برصد الألم، بل تعيد صياغته في صورة مقلوبة تجعل من الطبيعة شريكاً في النضال، وتجعل من المأساة طاقةً على التجدّد، فالبحر الذي كان مسرحاً للفقد في تجارب سابقة، يتحول في النص إلى فاعلٍ أخلاقي يرفض أن يكون شاهداً صامتاً، فيبتلع أدوات القتل ويمنح الموج وظيفة الحماية، وهكذا تنبثق الملحمة من قلب الواقع المرير لا من استعارةٍ بعيدة.


ملامح الملحمة تتوزع على ثلاثة أعمدة: البطل الجمعي، والخريطة المكانية، والزمن المفتوح، و”نحن” هي الكلمة المحورية التي يتكئ عليها النص، فلا وجود للبطل الفردي الذي يحتكر الفعل والبطولة، بل الذات الجماعية التي تخوض المعركة وتنتج الحكاية، ومن هنا تنفتح الجغرافيا لتحتضن غزة والقدس ويافا وطولكرم وسائر القرى والمخيمات، لتتحول من مجرد أمكنة إلى حامل رمزي للذاكرة والهوية، ويكتب الشاعر: “غزّةُ ماؤُنا وهواؤُنا… تلك الجذورُ الضارباتُ جذورُنا”، ثم ينقل يافا من موقع المفقود إلى موقع المستعاد: “يافا ستبدو حُرّةً… ساحاتُها… شاطئُها… بيوتُها العربيّةُ الأختامِ”.


إنّها جغرافيا جديدة ترسم بالحبر والدم معاً، خريطة داخل النص تؤكّد أن المكان لا يختزل في حدود سياسية، بل في انتماءٍ وجودي يعيشه الناس ويحملونه معهم، أما الزمن فمشدود إلى الأفق القادم، إلى وعدٍ لا بدّ أن يتحقق، إذ يقول الشاعر: “آتٍ عمرُنا… لا بدّ آتٍ في براحِ الانتصارِ”، وينتهي إلى القرار الجامع: “لا تغريبةٌ أخرى نلوذُ بها”.


إنّها لحظة وعي نقدي بالتاريخ، حيث يستدعى طيف التغريبة الفلسطينية ليعاد كتابته بالنفي، لا باعتباره قدراً مكروراً بل باعتباره مصيراً مرفوضاً.


وفي عمق هذه الرؤية يقيم الشاعر عبد الناصر صالح شبكة من الصور الرمزية التي تقوم على ثنائية الماء والنار، فالماء ليس ساكناً ولا غامراً بل مولّداً للمعنى: “كان الموجُ مُبتَهلاً”، “إنّ البحرَ موفورُ اليقينِ”، و”ها لغةُ الهواءِ تصيرُ ماءً في الخيامِ”.


إنه ماءٌ يتجاوز فكرة الطهارة ليصبح هويةً تتسرب في كل مسام الحياة، أما النار فلا تحضر كأداة دمار فقط، بل كطاقة تثبيت للوعي واليقين: “سنكتبُ فجرَنا عيداً يصدّ الموتَ… يشدّ حزامه الناريّ”، و”نارُ يقينِنا”، فالتداخل بين الماء والنار يعكس حركة المقاومة نفسها، حيث يتحوّل الدمار إلى طاقة للبقاء، ويصبح الموت مادّة لإنتاج حياةٍ جديدة في الوعي الجمعي.


ومع هذا البناء الرمزي، تتناثر مشاهد سردية تشكّل العمود الفقري للقصيدة: “سيقصفُ حيَّنا المحتلُّ يا ولدي… بيتي، بيتَ أجدادي وأسئلةَ الطفولةِ”، “مكتبتي على الإسفلت فجّرَها الغزاةُ”، “أعدُّ أشلائي فينغلقُ الغبارُ”، وهذه اللقطات الموجعة تظل متصلة بالخيط الملحمي لأنها لا تُروى كوقائع جامدة، بل تُستعاد لتتحوّل إلى إيقاع جديد من إيقاعات البقاء، كما في قوله: “صوتُكَ الممدودُ فينا شارةُ الإيقاعِ في لحنِ الشهادةِ”، فالشهادة نفسها تُقدّم هنا ليس كفقد فردي، بل كطقس جمعي يتكرّر ويمنح المعنى امتداداً، لتتحول المأساة إلى “عرس” جماعي: “عرسُنا آتٍ… عرسُنا يمتدّ”، وهنا تبلغ القصيدة ذروة الملحمة، إذ تقلب الموت إلى وعدٍ بالحياة، والدم إلى عقد اجتماعي جديد.


لغة النص تتحرك بين النداء والأمر والتكرار، وهي أدوات تعطي القصيدة إيقاعها التعبوي دون أن تفقد شعريتها: “فاخرجْ من الأرضِ التي لفظتْكَ”، “صوِّبْ نحوَها”، “ها هُنا نحن ابتدأنا”، فالتكرار يشتغل كإيقاع ثابت وكتوكيد وجودي: “نحن هنا… هنا”، و”آتٍ عمرُنا… آتٍ”، و”عرسُنا يمتدُّ”.


وكل هذه البُنى اللغوية تمنح القصيدة موسيقى قريبة من الترتيل، تجعلها قابلة لأن تُلقى في الساحات بقدر ما تُقرأ في الكتب، وإلى جانب هذا البعد الصوتي، يشتغل النص على تناصّات متعددة، من القرآن الكريم إلى الأسطورة الشعبية إلى الطقس الاجتماعي، “غزّةُ وَمْضَةُ المعراجِ” و”الإسراءُ طوفانُ المِجَنّ” ليست إحالات تزيينية، بل تحولاتٌ وظيفية تمنح المكان قداسةً، والحركة معنى جمعياً يتجاوز حدود الجغرافيا ليؤسس للكرامة، أما “العرس” فيظهر كأكثر الصور كثافة، يتحول من مناسبة خاصة إلى طقس وطني عام، ومن رمز للحياة الفردية إلى رمز للهوية الجمعية.


ولأنّ القصيدة تتعامل بجرأة مع السياسي، فإنها تحاكمه بلسان شعري يجنّبها الوقوع في الشعاراتية، يقول الشاعر: “خسئَ التفاوضُ يا أخي… خسِئتْ معادلةُ الرغيفِ لقاءَ إسقاطِ البنادقِ”، وهنا يعرّي الوهم الذي سوّقته بعض التسويات السياسية ويعيد تعريف العلاقة بين الكرامة والعيش، مؤكداً أن الحق لا يُقايض برغيف، وأن البندقية ليست تفصيلاً زائداً في معادلة الحرية، وفي مقابل هذا الموقف الرافض، يثبّت انحيازه الطبقي والإنساني: “منحازونَ للفقراءِ كالمعتادِ”، ليؤكد أن فلسطين ليست قضية أرض فقط، بل قضية عدالة اجتماعية أيضاً، وأن الملحمة لا تكتمل إلا بارتباطها بالناس العاديين، بالمقهورين الذين يصنعون التاريخ.


ويواصل النص بناء صورة الذات التي تتماهى مع الجماعة من غير أن تفقد خصوصيتها، إذ يقول: “أنا المُرابطُ فوقَ ظهرِ الماءِ… أكتبُ سيرتي قيثارةً للموجِ”.


إنها ذات فردية تكتب وتغني لكنها لا تعزل نفسها عن الجماعة، بل تجعل من صوتها مرآةً للأصوات جميعها، ولذا يتكاثر التشخيص البلاغي، فالأرض تُغني، والبحر يخطب، والدم يزهر نعناعاً، والمكان يكتسب حياةً نابضة، إنه استدعاء للطبيعة كي تشهد وتشارك، بحيث لا تبقى خلفية صامتة بل تصبح جزءاً من المعنى الملحمي.


ويتدرج النص سردياً من لحظة الصدمة الأولى، إلى مشاهد الدمار، إلى نداءات الاستنهاض، إلى ذروة الوعد بالعرس والانتصار، ليغلق بإعادة كتابة البداية: “ها هُنا نحن ابتدأنا”، ثم الجملة الختامية: “لا تغريبةٌ أخرى نلوذُ بها”، وهكذا يُلغى احتمال التكرار التاريخي ويستبدل بإصرارٍ على البقاء، وليس مصادفة أن يختم الشاعر بإشارة واضحة إلى الأرض، بتوقيع صريح باسم المكان “طولكرم/فلسطين”، وكأنّه يضع ختم الجغرافيا على الورق ليمنع اللغة من الانفلات إلى المجاز المجرد.


في نهاية المطاف، تمنحنا هذه القصيدة درساً في كيفية تحويل الألم إلى طاقة ملحمية، باعتبار أنها ليست خطاباً سياسياً مغلفاً بالصور، وليست نشيداً احتفالياً يتجاهل الفقد، بل نصٌّ يجمع بين الواقعة التاريخية والبعد الأسطوري، وبين دم الواقع وماء اللغة، بين النار المشتعلة واليقين الممتد.


عبد الناصر صالح في “لا تغريبةٌ أخرى تلوذُ بنا” يكتب نصاً لا يُقرأ فقط كقصيدة، بل يُتلقى كوثيقةٍ جمالية وأخلاقية وسياسية، كأنها بيانٌ شعري يؤكد أن البقاء ليس خياراً فردياً بل قدراً جماعياً يُصاغ بالدم والكلمة معاً، وحين يردّد في ختام ملحمته “لا تغريبةٌ أخرى”، فإنه لا يعلن فقط رفض التكرار، بل يضع العهد في صيغة جملة شعرية ستظل تلاحق القارئ كأيقونة خلاص وكتابة جديدة للمصير.

⦁ شاعر وكاتب فلسطيني

شاهد أيضاً

حركة فتح الخليل

بعد فوزها بانتخابات هيئة المكاتب الهندسيّة.. “فتح”: الفوز الساحق للحركة يؤكّد التزام شعبنا بمشروع الحركة الوطنيّ ونهجها الديمقراطيّ الثابت

شفا – أكّدت حركة التحرير الوطنيّ الفلسطينيّ “فتح”، أنّ الفوز السّاحق الذي حقّقته قائمة “المهندس …