12:16 صباحًا / 13 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

الزقوقيا ، أنثروبولوجيا الذاكرة ولغة الحنين – قراءة نقدية موسّعة ، بقلم : رانية مرجية

الزقوقيا ، أنثروبولوجيا الذاكرة ولغة الحنين – قراءة نقدية موسّعة ، بقلم : رانية مرجية

الزقوقيا ، أنثروبولوجيا الذاكرة ولغة الحنين – قراءة نقدية موسّعة ، بقلم : رانية مرجية

يقدّم كتاب “الزقوقيا” لخالدية أبو جبل أكثر من مجرد نصوص نثرية؛ إنه عمل أدبي يشتبك مع الذاكرة الفلسطينية في مستوياتها المعيشية والرمزية، ويعيد إنتاجها عبر لغة مشبعة بالصور والإيقاعات الداخلية. من اللحظة الأولى، ندرك أننا أمام نصوص تنتمي إلى الأدب الذاكراتي، حيث الماضي ليس استرجاعًا باردًا، بل حضورٌ فاعل في تشكيل الحاضر والهوية.

البنية الموضوعية: الذاكرة كحارس للهوية

تنطلق أبو جبل من التجربة الشخصية، لكنها سرعان ما تتجاوزها لتصوغ هوية جمعية تتكئ على ذاكرة الأم، والأرض، والبيت، والعطر، والمطر. الأم ليست مجرد شخصية عاطفية في السرد، بل هي “المجاز الأعظم” الذي يحوي الوطن والحنان والتضحية. والأرض تتحول في النصوص إلى كائن حيّ “يغار، يمنح، يغضب، ويتألم”، بما يمنحها أبعادًا إنسانية تتجاوز الوظيفة الزراعية أو الجغرافية.

اللغة: موسيقى الحنين وبنية الصورة

لغة أبو جبل غنائية بامتياز، لكنها ليست غنائية رخوة أو استعراضية؛ بل غنائية متينة تبنى على المحسوسات والرموز الطبيعية. مفردات مثل الزقوقيا، الزيتون، قوس قزح، الطابون، حفنة الماء، القرنفل تتحول إلى بؤر دلالية متكررة تشكّل ما يشبه المعجم الشخصي للكاتبة، حيث كل كلمة تنفتح على شبكة من الارتباطات الشعورية والتاريخية.

الاستعارة والتشخيص: تمنح الطبيعة صفات إنسانية والعكس، فيتداخل الكائن الحي مع الجماد. الماء “يلثم الحصى”، والعجين “يفهم دموع الأم”، والزقوقيا “تحب وتصبر وتحفظ الحب”.

التكرار الإيقاعي: توظف الكاتبة التكرار الصوتي والدلالي كأداة تثبيت للمعنى وإيقاع للقراءة، مثل ترديد جملة “أصبر… أصبر… أصبر!”، وهو تكرار يشتغل على مستوى الحفر النفسي في ذاكرة القارئ.

الجملة الطويلة المتدفقة: كثير من النصوص تُكتب بجمل متوالدة، حيث تتدفق الصور في نسق شعري يقترب من المونولوج الداخلي، ما يمنح النصوص كثافة وجدانية.

الصور البلاغية: بين البانورامي والمقرّب

تمتلك الكاتبة قدرة لافتة على الانتقال من الصورة البانورامية (الوادي بأزهاره، البحر بأمواجه) إلى اللقطة المقرّبة (دمعة في عجين الأم، خصلات الجديلة بين أصابعها). هذا الانتقال البصري يخلق ديناميكية سردية تجعل النصوص قابلة للتجسيد المسرحي أو البصري.

الإيقاع الداخلي: سرد يتنفس شعراً

رغم أن النصوص تُصنَّف كنثرية، إلا أن بنيتها الإيقاعية تقوم على التوازي الصوتي والمعنوي، حيث نجد الجمل القصيرة تتعاقب مع الطويلة، وتتشابك الفواصل النقطية مع علامات التعجب، لتصنع نوعًا من التنفس الشعري. هذا الإيقاع يعكس الوجدان المتأرجح بين الفرح والحزن، بين الغياب والحضور.

المستوى النقدي: ملاحظات على البناء

قوة العمل تكمن في قدرته على تحويل التفاصيل اليومية إلى رموز كبرى، لكن هذه القوة أحيانًا تتحوّل إلى سيف ذي حدين؛ فالإفراط في الوصف الحسي قد يبطئ الإيقاع في بعض النصوص، خاصة حين يتراكم المعجمي على حساب الدفع السردي. كما أن تمركز النصوص حول الحنين يجعلها عرضة لدرجة من التكرار الموضوعي، وهو ما كان يمكن تجاوزه بتوسيع مساحات التجريب الأسلوبي.

الزقوقيا: ما بين الأدب الشفوي والمكتوب

يحتفظ الكتاب بروح الحكاية الشفوية الفلسطينية، حيث تنساب العبارات وكأنها تُروى على مقعد أمام بيت قديم، وفي الوقت نفسه يلتزم بحرفية النص المكتوب من حيث ضبط اللغة وتماسك البنية. هذا التداخل يجعل القارئ يشعر أن النصوص ليست فقط للقراءة، بل للاستماع أيضًا، وكأنها أناشيد للحياة والموت والحب والمقاومة.

خاتمة

“الزقوقيا” ليس مجرد كتاب، بل مخطوط وجداني يكتب سيرة الذات عبر سيرة المكان، ويوثق فلسطين كما تعيش في الحواس لا كما تُرسم على الخرائط. خالدية أبو جبل هنا لا تكتب لتسرد فحسب، بل لتمنح القارئ تجربة حسية كاملة: نرى، نشم، نتذوق، ونحزن ونفرح معها. لغتها، بما تحمله من دفء وتماسك، تجعل النصوص قادرة على العبور من الخاص إلى العام، ومن اليومي إلى الأسطوري، لتؤكد أن الأدب الذاكراتي هو في جوهره فعل مقاومة.

شاهد أيضاً

أسعار الذهب اليوم الثلاثاء

أسعار الذهب اليوم الثلاثاء

شفا – جاءت أسعار الذهب اليوم الثلاثاء 12 أغسطس كالتالي :عيار 22 69.900عيار 21 66.800