
الرئيس محمود عباس وخيار التحويل الأحادي للسلطة الفلسطينية إلى دولة بين الجرأة والمخاطرة ، بقلم : محمود جودت محمود قبها
منذ عقود ظل الحلم الفلسطيني بالدولة المستقلة حاضرًا في الخطاب السياسي والوجدان الشعبي لكنه بقي مؤجلًا بفعل معادلات القوة الإقليمية والدولية ورفض إسرائيل الالتزام بقرارات الشرعية الدولية اليوم وفي ظل انسداد أفق المفاوضات وتآكل الثقة بالعملية السياسية تبرز فكرة أن يُقدم الرئيس الفلسطيني محمود عباس على خطوة دراماتيكية وغير مسبوقة إعلان أحادي الجانب بتحويل السلطة الفلسطينية إلى دولة مستقلة هذه الخطوة – إن وقعت – ستكون نقطة تحوّل في مسار القضية الفلسطينية إذ ستنقلها من إطار الكيان الإداري المؤقت الذي نشأ باتفاق أوسلو إلى إطار دولة ذات سيادة وفق القانون الدولي بكل ما يحمله ذلك من تبعات سياسية واقتصادية وأمنية.
الخلفية التاريخية والسياسية تأسست السلطة الفلسطينية عام 1994 نتيجة لاتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل بهدف إدارة شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة لفترة انتقالية مدتها خمس سنوات يتم خلالها التفاوض على قضايا الحل النهائي القدس، الحدود، اللاجئين، المستوطنات، الأمن، والمياه لكن بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا لم تتحقق الدولة الموعودة بل توسعت المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وازدادت السيطرة العسكرية على الأرض فيما تعرضت العملية السياسية إلى سلسلة من الانهيارات آخرها فشل مفاوضات 2014 برعاية أمريكية هذا الواقع مع تراجع الدعم الدولي الفعّال دفع القيادة الفلسطينية إلى البحث عن خيارات بديلة منها التدويل والانضمام إلى المؤسسات الدولية والآن – وفق هذا السيناريو – إعلان الدولة من جانب واحد .
معنى الخطوة ومغزاها التحويل الأحادي للسلطة إلى دولة لا يعني مجرد تعديل في الاسم أو تغيير في الهياكل الإدارية بل هو إعلان سياسي سيادي مفاده أن الفلسطينيين لم يعودوا يقبلون البقاء في مرحلة انتقالية لا نهاية لها وأنهم يعتبرون أنفسهم أصحاب سيادة على أرضهم المحتلة حتى وإن لم تتوفر السيطرة الفعلية على كامل هذه الأرض أبعاد الخطوة على الصعيد القانوني الانتقال من “سلطة حكم ذاتي” إلى “دولة تحت الاحتلال” يمنح الفلسطينيين صفة قانونية أوسع في المحافل الدولية ويتيح لهم المطالبة بتطبيق اتفاقيات جنيف بشكل مباشر على وضعهم يعزز موقفهم في المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة جرائم الحرب الإسرائيلية على الصعيد الدبلوماسي سيمنح القيادة الفلسطينية ذريعة أقوى للمطالبة بالاعتراف الدولي الكامل وربما الحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة سيجبر بعض الدول المترددة على تحديد موقف واضح بين دعم الحق الفلسطيني أو الانحياز للضغط الإسرائيلي – الأمريكي .
على الصعيد الشعبي قد يمنح الشارع الفلسطيني دفعة معنوية وشعورًا بالكرامة الوطنية لكنه في الوقت نفسه قد يرفع سقف التوقعات ما قد يضع القيادة تحت ضغط أكبر إذا لم تتحقق إنجازات ملموسة على الأرض المواقف المتوقعة إسرائيل ترفض الخطوة جملة وتفصيلًا وتعتبرها خرقًا لاتفاق أوسلو وقد ترد بإجراءات عقابية تشمل حجز أموال الضرائب (المقاصة) التي تمثل المصدر الرئيس لرواتب الموظفين فرض قيود مشددة على حركة المسؤولين الفلسطينيين توسيع النشاط الاستيطاني تهديد أمني وربما عمليات عسكرية محدودة الولايات المتحدة الإدارة الأمريكية تعتبر الإعلان خطوة أحادية تضر بفرص السلام وربما تخفض أو توقف المساعدات المالية تضغط على دول أخرى لعدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية الجديدة .
الاتحاد الأوروبي سيحافظ على موقفه التقليدي الداعي لحل الدولتين عبر التفاوض مع رفض الإجراءات الأحادية من الطرفين لكنه قد يترك الباب مفتوحًا للاعتراف الجزئي أو التدريجي بالدولة الفلسطينية خاصة من قبل بعض الدول الأعضاء التي تدعم الحق الفلسطيني العالم العربي الموقف العربي سيكون داعمًا من حيث المبدأ لكن دون استعداد كامل لتحمل تبعات سياسية أو اقتصادية في مواجهة إسرائيل أو حلفائها الدعم سيبقى في الإطار الدبلوماسي والإعلامي مع تقديم مساعدات مالية لتخفيف أثر العقوبات المحتملة .
التحديات الداخلية أي خطوة بإعلان الدولة ستواجه عقبات من الداخل الفلسطيني الانقسام الفلسطيني بين الضفة وغزة سيُضعف من شرعية الخطوة إذ قد تستخدمه إسرائيل والولايات المتحدة كذريعة لرفض الاعتراف بدولة لا تمثل جميع الفلسطينيين الأوضاع الاقتصادية الهشة ستتأثر سريعًا إذا فُرضت عقوبات أو جرى وقف نهائي أموال المقاصة الضغوط الشعبية قد تتحول إلى احتجاجات إذا شعر المواطنون أن الخطوة لم تحقق تغييرًا ملموسًا أو زادت من معاناتهم.
السيناريوهات المستقبلية سيناريو النجاح النسبي اعتراف سريع من قبل عشرات الدول خاصة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا دعم عربي مالي وسياسي يمنع الانهيار الاقتصادي استمرار الضغط الدبلوماسي على إسرائيل ما يدفعها في النهاية للتفاوض من موقع أقل قوة سيناريو الفشل والعزلة رفض دولي واسع وعقوبات اقتصادية من إسرائيل وأمريكا ما يضعف مكانة القيادة الفلسطينية داخليًا وخارجيًا سيناريو التصعيد الميداني تزايد الاحتكاك بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي واندلاع مواجهات واسعة في الضفة الغربية وربما دخول غزة على خط المواجهة.
إقدام الرئيس محمود عباس على إعلان أحادي الجانب لتحويل السلطة الفلسطينية إلى دولة سيكون قرارات سياسية كبرى قد تُعيد الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني على الساحة الدولية أو تدفع بالوضع القائم نحو مزيد من التعقيد والتدهور إنها خطوة جريئة تحمل في طياتها وعدًا بالحرية وخطر الانفجار في آن واحد وستبقى نتيجتها مرهونة بقدرة الفلسطينيين على إدارة التداعيات بحكمة وبمدى استعداد المجتمع الدولي لتحويل الاعتراف السياسي إلى دعم عملي يحمي هذا الإعلان من أن يكون مجرد حدث رمزي في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي .
باحث في درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية