
جوائز على رؤوس السيادة ، بقلم : محمد علوش
في واحدة من أكثر الخطوات غرابة واستفزازاً في السياسة الخارجية الأمريكية، أعلنت وزيرة العدل الأمريكية، بام بوندي، عن مكافأة تصل إلى خمسين مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، متهمة إياه بدعم عصابات إجرامية وتهديد الأمن القومي الأمريكي.
هذا التصعيد ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من السياسات الأمريكية العدائية تجاه فنزويلا، والتي باتت تعكس عجزاً سياسياً واضحاً في التعامل مع الأنظمة المستقلة، وميلاً متزايداً إلى استخدام القوة والعقوبات والابتزاز، بدلاً من الحوار أو احترام السيادة الوطنية.
منذ صعود مادورو إلى الحكم خلفاً لهوغو تشافيز، لم تتوقف واشنطن عن محاولات تقويض النظام الفنزويلي، سواء عبر العقوبات الاقتصادية القاسية، أو بدعم المعارضة الداخلية والخارجية، أو حتى من خلال محاولات انقلابية فاشلة، ورغم فشلها المتكرر، تصرّ الولايات المتحدة على التعامل مع فنزويلا كدولة “مارقة”، لا لشيء سوى لأنها اختارت أن تسلك طريقاً سياسياً واقتصادياً مستقلاً لا يخضع لإملاءات واشنطن، وقررت أن تدير ثرواتها السيادية – وعلى رأسها النفط – بما يتماشى مع مصالح شعبها، لا مع مصالح الشركات الأمريكية.
إن الخطوة الأخيرة ليست فقط تعبيراً عن عداء سياسي، بل هي أيضاً خرق صارخ للقانون الدولي وتعدٍّ على سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة، فمتى أصبحت وزارة العدل الأمريكية جهة عابرة للقارات، تلاحق رؤساء دول وتحرّض على ملاحقتهم برصد جوائز مالية كما لو كانوا قادة عصابات مافيا؟ ما الفرق، إذاً، بين هذه السياسات وأعمال القرصنة السياسية؟
إنّ ما يحدث يعكس بوضوح منطق الغطرسة الذي لطالما ميّز السياسة الخارجية الأمريكية، والذي بات مع الوقت أداة لزرع الفوضى وتغذية الصراعات، لا لحلّها.
والأدهى من ذلك، أن هذه الممارسات تروّج تحت شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، في حين أن الشعب الفنزويلي هو أول المتضررين من هذه السياسات، فالعقوبات الأمريكية، التي طالت القطاعات المصرفية والطبية والنفطية، تسببت في انهيار اقتصادي خانق، ونقص حاد في المواد الأساسية، وتفشّي البطالة والهجرة، ومع ذلك، تُصر الإدارة الأمريكية على المضي في هذا الطريق، متمسكة بمنطق العقاب الجماعي، وهو منطق لا يمكن وصفه إلا بالعبثي واللاإنساني.
إنّ السياسة الأمريكية تجاه فنزويلا لا تختلف كثيراً عن سجلها المظلم في أمريكا اللاتينية، حيث دعمت واشنطن انقلابات دموية، وتآمرت على حكومات منتخبة ديمقراطياً، فقط لأنها لم تتوافق مع مصالحها، واليوم، تعود إلى الساحة بذهنية استعمارية متوهمة أن بوسعها إزاحة الأنظمة المستقلة عبر الضغط الاقتصادي والتشهير الإعلامي، دون أن تدرك أن العالم تغيّر، وأن الشعوب أصبحت أكثر وعياً، وأن زمن الهيمنة الأمريكية غير المشروطة قد ولّى أو بدأ بالتفكك.
ولعلّ ما يزيد من فداحة هذا السلوك الأمريكي تجاه فنزويلا هو تجاهله لمواقف هذا البلد الداعمة للقضايا العادلة في العالم، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فقد كانت فنزويلا – في عهد تشافيز ومن بعده مادورو – من أوائل الدول التي قطعت علاقاتها مع إسرائيل، ووقفت في المحافل الدولية دفاعاً عن حقوق الشعب الفلسطيني، وقدّمت الدعم السياسي والدبلوماسي الثابت لقضيتنا الوطنية، ورفضت المساومة على حق الفلسطينيين في التحرر وتقرير المصير.
إن هذا الموقف الفنزويلي لا ينسى، وهو ما يجعل الشعب الفلسطيني يرى في فنزويلا دولة صديقة، وفي استهدافها استمراراً للسياسة الأمريكية التي لا تعادي فقط من يخالف مصالحها، بل تعادي أيضاً من يتضامن مع القضايا التحررية، وفي مقدمتها فلسطين، ولهذا فإن التضامن مع فنزويلا اليوم، هو أيضاً جزء من معركة الدفاع عن القيم المشتركة بين الشعوب المقاومة للهيمنة الامبريالية، وهو فعل من أفعال الوفاء السياسي والنضالي في وجه الغطرسة الأمريكية.
وإن كانت أمريكا تتحدث عن “تهديدات أمنية”، فإن أكبر تهديد للأمن العالمي اليوم هو هذه العقلية الأمريكية التي تنصّب نفسها حاكمًا فوق الجميع، وتوزّع الاتهامات والعقوبات حسب أهوائها، دون أي اعتبار للقانون الدولي أو للكرامة الوطنية للدول.
لقد آن الأوان لأن تتوقف الولايات المتحدة عن لعب دور “الشرطي العالمي”، وأن تدرك أن الشعوب لا تشترى ولا تُاع، ولا تخضع بسياسات التجويع والحصار، والمطلوب اليوم ليس مزيداً من التصعيد، بل مراجعة جذرية لهذه السياسة الفاشلة، والتعامل مع فنزويلا – وغيرها من الدول – بندّية واحترام، لا من منطلق التفوق والغطرسة، فالحماقة السياسية لا تبني نفوذاً، بل تفضح الإفلاس الأخلاقي، وتسرّع من تراجع النفوذ الأمريكي الذي بات واضحاً في أكثر من ساحة.