
مؤتمر حل الدولتين بين “الواقع والأفاق المستقبلية” ، بقلم : د. علاء سليمان الديك
إنعقد مؤتمر حل الدولتين أواخر يوليو الماضي وصدر عنه “إعلان نيويروك” متضمناً إتخاذ خطوات ملموسة لتسوية القضية الفلسطينية، ولكن الملاحظ أن الفلسطينيين لم تتغير أوضاعهم بعد المؤتمر، والإحتلال يباشر أعماله الأحادية في كل مكان. والجدير بالذكر أن بعض الدول الغربية قد أعلنت نيتها الإعتراف بالدولة الفلسطينية في دورة إجتماع الأمم المتحدة في سبتمبر القادم، دون توضيح أسباب وغايات هذا التأجيل، وخاصة أن الحالة الفلسطينية لا تحتمل هذا التأجيل، فكل دقيقة في فلسطين ينتهك فيها الحق في الحياة والعيش بحرية وكرامة. وهنا نتساءل: هل تحتاج هذه الدول مزيد من الوقت للإعتراف بفلسطين “دولة” وتسعى لتجسيد هذا الإعتراف بالواقع وفق مبدأ حق تقرير المصير للشعوب المحتلة، وخاصة أن الفلسطينيين يعيشون حالة غير مسبوقة من سوء الأوضاع السياسية والمدنية والإجتماعية والإقتصادية وما شابه! وعليه، لماذا هذا التأجيل، وما هي أسباب ودوافع إنعقاد هذا المؤتمر إن لم يأتي بنتائج ملموسة وجادة! من هنا جاءت أهمية هذا المقال بهدف تحليل وتقييم فاعلية إنعقاد المؤتمر ومخرجاته الغائبة عن الواقع في ظل سوء الأوضاع الراهنة في فلسطين، بمعنى هل إنعقاد هذا المؤتمر ومخرجاته تلبي متطلبات الوضع الحالي الذي يعيشه الفلسطينيين! وعندئذ ما هي الإحتمالات التي ستشهدها القضية الفلسطينية في ظل الترحيب الفلسطيني الرسمي بذلك، وكأن هذه الخطوة في نظر الساسة الفلسطينيون كافية وتلبي أهداف وتطلعات الفلسطينيين في الحرية والإستقلال، دون تقديم اي ضمانات ملموسة لتطبيق ذلك.
فالإعتراف بالدولة الفلسطينية وفق القانون الدولي تم الترحيب به على المستوى الرسمي الفلسطيني، ولكن هل تم تنفيذ وإحترام ذلك الإعتراف! بالتأكيد لا، والسبب إستمرار مجاملة ودعم الدول الغربية وأعضاء اللجنة الرباعية الدولية لإسرائيل، على إعتبار أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط حسب إعتقادهم، وبالتالي يجب الحفاظ على هيبتها وقوتها ونفوذها. إضافة لذلك، تجاهل ورفض إسرائيل الإعتراف بالدولة الفلسطينية نظرياً وعملياً، وعدم الإلتزام بالقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية في هذا السياق. وكذلك تجاهل وغياب فاعلية الولايات المتحدة وأعضاء اللجنة الرباعية الدولية لتحقيق وتجسيد السلام والإستقرار في منطقة الشرق الأوسط من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وفق مبدأ حل الدولتين، والذي تبنته الولايات المتحدة والأمم عبر مجموعة من القرارات الإتفاقيات والتفاهمات والمبادرات الإقليمية والدولية ذات الصلة، والتي وافق عليها الساسة الفلسطينيون من دون أي ضمانات وآليات عملية للتنفيذ في إطار زمني محدد لتحقيق أهداف وتطلعات الفلسطينيين العادلة والمشروعة. وأخيراً مازال الساسة الفلسطينيون مستمرون في مجاملة الولايات المتحدة والدول الغربية وباقي أعضاء اللجنة الرباعية الدولية، ويستجدون بالإدانة والتحليل والمناشدة تلك الدول في كل المناسبات والمحافل لتحقيق طموحات الفلسطينيين في الحرية وتقرير المصير من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة بالواقع، ولكن دون جدوى، فالفلسطينيون مازالوا تحت الإحتلال المباشر دون حرية أو عيش كريم.
من جهة أخرى، أطلقت العديد من الدول الصديقة والصادقة في دعم عدالة القضية الفلسطينية دون خجل من أحد، عدة مبادرات عملية للضغط على إسرائيل وحلفائها الغربيون لإنهاء الإحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وضرورة تجسيد حل القضية الفلسطينية بالواقع وفق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، وأهمها التحالف الدولي الجديد الذي يضم أكثر من ثلاثون دولة بقيادة “مجموعة لاهاي”، والذي عقد في العاصمة الكولومبية بوغوتا في منتصف يوليو الحالي، حيث إتفق المجتمعون على إتخاذ مجموعة من الإجراءات القانونية والدبلوماسية والإقتصادية بحق إسرائيل في حال عدم الوفاء والإلتزام بالقانون الدولي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والبدء الفوري بوقف إجراءاتها الأحادية في الأراضي المحتلة كافة. إضافة لذلك، فإن هناك حالة من التضامن الإقليمي والدولي عبرت عنه العديد من القوى الإجتماعية والسياسية التقدمية والإشتراكية والديمقراطية لمساندة الحقوق العادلة والمشروعة للفلسطينيين، والتي طالبت بضرورة حل القضية الفلسطينية بشكل عادل وشامل دون تأخير. وكذلك يشهد المجتمع الغربي تحولات فكرية لدى مجموعة من الساسة والأكاديميين والباحثين، والتي تدعو لتحقيق العدالة الحازمة للفلسطينيين، الأمر الذي ترك أثراً إيجابياً لتحرك شعوب غربية وأوروبية للمطالبة والضغط على أنظمتهم بالإعتراف الفوري بالدولة الفلسطينية بشرط دعم تحقيق الحقوق العادلة والمشروعة للفلسطينيين بالواقع، دون إكتراث أو مجاملة أو خجل من أي جهة تعارض أو تتحفظ على ذلك.
وهذا يؤكد أن صمود وتضحيات الفلسطينيين رغم كل إجراءات الإحتلال الأحادية والغير مسبوقة في القرن الحادي والعشرون في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، هي الدافع الحقيقي وراء هذا التحرك الدولي الفعال للمطالبة بتجسيد عدالة الحقوق المشروعة للفلسطينيين بشكل ملموس ودائم. وفي السياق ذاته، حرصت الدولة الصديقة والصادقة مع الفلسطينيين “جمهورية الصين الشعبية” على حشد الدعم الدولي من خلال دعم “المبادرات الجماعية” بشكل “ثابت وحازم” لتجسيد حل القضية الفلسطينية بلا تردد أو مجاملة لأحد سوى السعي لتحقيق العدالة للفلسطينيين وفق القانون الدولي وميثاق الأمم، رغماً عن كل محاولات التقليل من أهمية هذا الدور وعدم الإهتمام فيه او التعاون لإنجاحه من قبل بعض الأطراف الفاعلة. في يوليو 2024 أعلن “إتفاق بيكين” لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، ووقع عليه 14 فصيل فلسطيني، ولكن لم يكتب له النجاح على أرض الواقع، فالفلسطينيون منقسمون، وتزداد ملامح هذا الإنقسام رغماً عن كل الظروف والتحديات التي تشهدها فلسطين ومستقبل القضية الفلسطينية. في المقابل، لم يدرك الساسة الفلسطينيون أهمية وتأثير تحقيق وإنجاز المصالحة والوحدة الوطنية على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، فتحقيق الوحدة والتضامن بين الفلسطينيين أنفسهم يعني خلق شراكة جماعية دولية فاعلة “سياسية ودبلوماسية وقانونية وإعلامية”، تكون قادرة على تجسيد الحقوق العادلة والمشروعة للفلسطينيين وفق إطار زمني محدد، وضمن رؤية وتحرك جماعي مشترك “حازم وثابت” أكثر موضوعية وتعددية لحماية وتطبيق العدالة والحوكمة العالمية في مؤسسات النظام الدولي القائم وأهمها مجلس الأمن الدولي.
في المحصلة، فإن مؤتمر “حل الدولتين” لم يكتب له النجاح وسيبقى حبراً على ورق طالما أن الإرادة الفلسطينية “إرادة الساسة الفلسطينيون” غائبة وضعيفة لتحقيق الوحدة والتضامن بين الأطراف الفلسطينية كافة، ولا يوجد أي إنسجام أو توافق في المواقف والأراء إزاء كيفية تحقيق الأهداف السياسية وإدراة الشأن العام الفلسطيني، وهذا من شأنه أن يفرغ حالة التضامن الدولي من محتواها، وخاصة إذا لاحظ المتضامن الدولي أن طموحات الساسة الفلسطينيون ترتبط فقط بإنعقاد مؤتمر دولي يعترف بفلسطين “دولة” نظرياً، ويدعم طرف فلسطيني على حساب الطرف الأخر، ويلتزم بدعم المؤسسات الفلسطينية مادياً فقط من دون فاعلية بالواقع، الأمر الذي لم يتحقق وطال إنتظاره أيضاً بهدف ممارسة الضغوطات على الفلسطينيين، وعندئذ الإكتفاء بإدارة الأزمة بدل حلها جذرياً، ويتزامن ذلك مع إصرار وإتخاذ إسرائيل قراراً بضم الضفة الغربية وتهويد القدس وإعادة إحتلال قطاع غزة عبر دعم الولايات المتحدة التي تتجاهل تجسيد الحقوق الفلسطينية، أوالتعاون مع اي مبادرات دولية تفضي لحل القضية الفلسطينية بشكل شامل وعادل ودائم من جهة أخرى. وعليه فإن المؤتمر كغيره من المؤتمرات الدولية السابقة لم يقدم خطوة عملية سوى الإعتراف بفلسطين “دولة” على الورق فقط من دون القدرة على تجسيدها بالواقع، أو حتى منح الفلسطينيين ميزات حقوقية كباقي مواطني الدول الأخرى على اساس التعامل بالمثل، وسيستمر الضغط على الساسة الفلسطينيون بقبول الحكم الذاتي من جديد على المناطق الفلسطينية بحسب الإتفاقيات السابقة، لحين تفضي المفاوضات الجديدة لحل تقبله إسرائيل مستقبلاً، وبالتالي فإن ذلك يضعنا أمام سؤال مركزي: هل هذا المؤتمر يستطيع وقف كافة الإجراءات الأحادية وإلزام إسرائيل بإنهاء إحتلالها للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وفق القانون الدولي والقرارات ذات الصلة، وبالتالي تجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة، وما هو الضامن لتحقيق ذلك! أعتقد جازماً أن ذلك صعب المنال، فاللجنة الرباعية فقدت مصداقيتها والغاية التي أنشئت من أجلها لتحقيق السلام والإستقرار في فلسطين والمنطقة، والدول الغربية العظمى ستبقى الداعم الأقوى لإسرائيل على إعتبار أنها جزء أساسي من المنظومة الغربية لا يمكن التخلي عنه.
- – د. علاء سليمان الديك – مختص بالشأن الصيني والعلاقات الدولية