
المنهاج القائم على الكفايات ، نحو تصور تربوي تحرري ومتكامل للذات والمعرفة ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني
ليس المتعلم الحقيقي ذلك الحارس الصارم للمعرفة، الذي يقف جامداً عند حدودها، وينقلها كما أُلقيت عليه دون شك أو إعادة صياغة. بل هو الكائن العارف والمتفاعل مع المعرفة، الذي يستنهضها من مخابئها الخفية، ويستدعيها بحساسية متقدة، ويعيد تشكيلها في تجربته الوجودية المتشابكة. هو من يتلمس نبض هموم مجتمعه، ويتفاعل بوعي حي مع أماني أمته ومستقبلها الرحب.
في زمن تداخلت فيه حدود المعرفة والفعل حتى تلاشت، تحول الفكر التربوي من تمجيد العقل الجامد الحافظ إلى احتفاء بالعقل الخلاق المتأمل الناقد؛ ذلك العقل الذي لا يكتفي بسطح النصوص، بل يغوص في أعماق المعاني وينسج منها أفقاً جديداً ينبض بالحياة، يزرع بذور المستقبل في نسيج الفكر، ويُعيد تشكيل الواقع برؤى تولد من عمق التجربة الإنسانية.
في هذا السياق، يتجلى “النمو الشامل للمتعلم” ليس في تراكم الشهادات أو الكم المعرفي، بل في القدرة الفاعلة على توظيف المعرفة في ساحات الحياة المركبة، واستيعاب تعقيدات العصر ورصد مآلاته المتغيرة. فالمنهاج القائم على الكفايات ليس مجرد مخزن للمعلومات الجامدة، بل هو فلسفة تأبى الجمود، تحفز انتقال المتعلم من موقع التلقي السلبي إلى فضاء الفعل والتفاعل الخلاق. هنا يصبح التعليم حركة ديناميكية حية، تنتج معرفة متجددة تنبع من ذات المتعلم، تغتذي بواقعه، وتثمر في مجتمعه.
أولاً: ماهية المنهاج القائم على الكفايات – إعادة بناء العلاقة بين الذات والمعرفة
عند الدخول إلى فضاء المنهاج القائم على الكفايات، نتجاوز هدف اكتساب معارف منفصلة أو جامدة. فالمنهاج يرنو إلى إعادة صياغة العلاقة بين الذات والواقع، وبين المعرفة والمعنى. الكفاية ليست كياناً جاهزاً يُلقّن، بل هي طاقة تنبعث داخل المتعلم حين يُتاح له الاشتباك بحرية مع تحديات وأسئلة معقدة، تستدعي تحريك قدراته العقلية والعاطفية والسلوكية في آن واحد.
لا تُقاس الكفايات بحجم المعلومات المخزنة في الذهن، بل بقدرة المتعلم على التعبير الوجداني والمعرفي المتكامل لمواجهة مشكلات الحياة اليومية. هي تركيب يتداخل فيه التفكير النقدي مع الفعل الأخلاقي، فتتحول المعرفة من هدف جامد إلى أداة تمكين وتغيير. بهذا المعنى، يصبح المنهاج القائم على الكفايات أفقاً يضمن للمتعلم سيادته الذاتية، بدل أن يكون مجرد خريطة خطية للمحتوى الدراسي تُعلي الكم على حساب العمق.
ولتقريب هذا المفهوم من الواقع، نجد تجارب عدة على الساحة التربوية تؤكد أن المنهاج القائم على الكفايات ليس مجرد نظرية، بل تجربة عملية أثبتت جدواها. ففي مدارس تبنت هذا المنهاج، نرى المتعلم وهو يتحول من متلقٍ سلبي إلى فاعل حيوي قادر على مواجهة تحديات الحياة اليومية بوعي ومسؤولية. هذه النماذج الواقعية تؤكد أن إعادة صياغة العلاقة بين الذات والمعرفة تحتاج إلى بيئات تعليمية مرنة تحفز التفاعل والتجريب.
هذا التوجه يعيد للمتعلم كرامته ككائن حر قادر على تشكيل المعنى وصياغة الحلول ومساءلة الواقع بوعي. وهو يتماشى مع رؤية ديوي (1938) الذي اعتبر أن الخبرة التربوية تتبلور داخل التفاعل الحي لا خارجه. فالمنهاج هنا يفتح مساراً للانتقال من التلقين إلى التعقل، ومن الامتثال إلى الإبداع، ليصبح فعلاً تحررياً يدعو إلى اكتشاف الذات وبناء المعرفة على أسس الحرية والجدوى والمشاركة.
جوهر المنهاج القائم على الكفايات يكمن في إعادة هندسة المشهد التربوي برمته: إذ يُعيد توجيه العملية التعليمية من أحادية التلقين إلى تعددية المعنى، ومن مركزية المعلم إلى تشاركية التكوين، ومن الفصل بين العقل والوجدان إلى وحدتهما، في مسار يتخذ من الكرامة التربوية منطلقاً، ومن التمكين غاية، ومن الحرية شرطاً للتعلم الحق.
ثانياً: الكفايات – المفهوم الفلسفي والتربوي
الكفاية ليست هدفاً تربوياً يُضاف إلى المحتوى الدراسي كعبء جديد، بل هي إعادة صياغة للعلاقة بين الذات والعالم. هي نمط وجود في التعلم، يرمز إلى تحول من المعرفة الخطية الجامدة إلى معرفة حية تتشكل في السياق وتُبنى بالمعنى. المتعلم الكفؤ لا يُقاس بمدى حفظه للمعلومات، بل بقدرته على توظيف معارفه لحل المشكلات، واتخاذ القرارات، والتفاعل النقدي مع محيطه.
هذا المفهوم يؤكد انتصار الذات الفاعلة على الذات المنفعلة التي تستهلك المعرفة سلباً. فالتعلم بالكفايات يعيد للمتعلم سيادته على تجربته التعليمية، ويحوّل العلاقة التربوية إلى فعل تحرري وتكوين ذاتي. فالكفاية ليست مجرد تقنية تعليمية، بل رؤية إنسانية تُعلي من حرية المتعلم، ومسؤوليته الأخلاقية والمعرفية تجاه ذاته وعالمه.
يُعبّر شونيه (1983) عن هذا التصور عبر التمييز بين المعرفة النظرية والمعرفة العملية، مشيراً إلى أن الكفايات الحقيقية تولد من مواجهة المتعلم لوضعيات واقعية تستدعي “التفكر أثناء الفعل”. ومن هنا، فإن الكفاية ليست تكراراً لوصفة جاهزة، بل إبداعاً في سياق متغير، يمنح المتعلم موقعاً أخلاقياً ومعرفياً داخل تعقيدات الواقع.
هذا التحول يعيد تشكيل أدوار المتعلم والمعلم على حد سواء، ويضع المناهج أمام اختبار جدّي لمسؤوليتها تجاه بناء مواطن مفكر، متفاعل، ومسؤول.
ثالثاً: أبعاد المنهاج القائم على الكفايات – العقل، الفعل، والوجداني
في المنهاج القائم على الكفايات، يتجلى الإنسان بوحدته المتكاملة التي تجمع بين البعد المعرفي، المهاري، والوجداني. فالمعرفة ليست مجرد تراكم معلومات تُحفظ ثم تُنسى، بل هي عملية حية من البناء والتأويل، تتشكل وتتجدد عبر الخبرة والسياق (OECD, 2018). هي تجربة عقلية تحفزها الأسئلة لا الإجابات الجاهزة، وتقاس بقدرة المتعلم على التفكير المعقد لا التذكر السطحي.
لا يمكن تجاهل دور التكنولوجيا الحديثة والمنصات الرقمية في دعم هذا المنهاج، إذ تتيح مصادر التعلم المفتوحة وبيئات التعلم التشاركي فرصاً غير محدودة لتحفيز العقل والفعل والوجداني معاً. كما تتيح الوسائط الرقمية للمتعلمين التعبير عن أفكارهم وعواطفهم بطرق مبتكرة، مما يعزز من التكامل العضوي بين الأبعاد الثلاثة، ويدعم خلق مجتمع تعليمي حي ومتجدد.
المهارة ليست مجرد إتقان تقني بارد، بل فعل إرادي واعٍ ينبثق من عمق الذات، حيث تخطط وتتصرف بوعي استراتيجي في فضاءات متحولة ومتغيرة. العقل العملي هنا لا يكتفي بقبول ما هو موجود كأمر واقع، بل يمتد إلى ما هو ممكن، يوسّع حدود الاحتمالات، ويحتضن التعقيد والتغير كفرص للنقد والتجديد. وهكذا، تتحول المهارات من أدوات تقليدية إلى أدوات تحرر، تفتح أمام المتعلم أبواب الفهم الذاتي والتمكين، ليصبح فاعلاً مدركاً لما يفعله، يسائل أفعاله ويعيد تشكيلها، لا مجرد منفذ صامت لأوامر جامدة.
أما الوجداني، فهو جوهر العملية التعليمية، فلا تعلم حقيقي بدون عاطفة، ولا كفاية كاملة بدون ضمير. إنه بناء ذات متصالحة تحترم نفسها وتقدّر الآخرين من موقع الاعتراف والاحترام المتبادل. رغم غفلة في كثير من المناهج التقليدية، تشكل الوجدانية الحاضنة الحقيقية لكل تعلم مستدام (Nussbaum, 2010). التربية التي تهمل الوجدانية تفرغ عقولاً بارعة من الروح، لذا يجب أن تبنى الكفاية على حب المعرفة، والتعاطف، والشغف بالفعل الهادف. وتتجسد هذه الوجدانية في ممارسات تربوية محددة، مثل سرد القصص، النقاشات المفتوحة، والتعلم التعاوني، التي تعزز التعاطف والشغف الحقيقي بالمعرفة.
إن التكامل العضوي بين العقل، والفعل، والوجداني في المنهاج القائم على الكفايات ليس نموذجاً نظرياً فحسب، بل دعوة صادقة لبناء إنسان متوازن، قادر على مواجهة تعقيدات الحياة المعاصرة. لا يكفي أن يعرف المتعلم أو يُجيد مهارات معينة، بل عليه أن يعيش المعرفة بعاطفة وضمير، فتكون هذه الأبعاد الثلاثة متكاملة في بناء ذات واعية ومسؤولة. هذا التكامل هو الأساس الذي يجعل من المنهاج عملية حقيقية للتحرر والتجديد، لا مجرد نقل للمعلومات أو إتقان تقنيات جامدة.
رابعاً: آفاق متجددة – المنهاج كفعل تحرري ومسيرة مستمرة
التعليم ليس مجرد نقل لمعلومات، بل هو حوار وجودي متواصل، حيث تلتقي الذات المتعلمة مع العالم في حالة يقظة فكرية مستمرة. في هذا الإطار، ينبثق المنهاج القائم على الكفايات كفضاء حيّ للنقد الذاتي والتجديد الدائم، لا تقتصر فيه الثقافة التعليمية على آليات تقييم تقنية، بل تتعدى لتصبح تأملًا جوهريًا في الوعي التربوي، ينبض بالحياة ويمنح العملية التعليمية روحًا متجددة. هنا، تتحول التجربة التعليمية إلى فضاء تحرر فيه الفكر وتتشكّل فيه الوعي النقدي، فتصير التربية فعلًا إنسانيًا متجدّدًا.
المساءلة الذاتية، بهذا المعنى، ليست إجراء شكليًا أو آلية روتينية، بل هي شعلة مضيئة تنير دروب التعلم، تمنح المعلم والمتعلم معًا قدرة فاعلة على التجدد والابتكار، تفتح أمامهما نوافذ لاكتشاف أبعاد جديدة للمعنى في عالم يتغير بلا هوادة. وبروح جدلية تستحضر الفكر الهيغلي في ديناميكية التغير والتحول المستمر، يتحول المنهاج من وثيقة جامدة إلى كائن حيّ معرفي، ينبض بالحياة ويتطلب رعاية متواصلة لكي لا يغرق في سكون يفتك بجوهر المعرفة.
في جوهره، فإن بناء هذه الثقافة النقدية المتواصلة هو الشرط الضروري لاستدامة التجديد في العملية التربوية، وضمان انخراط المنهاج في حركة مستمرة مع التحولات الاجتماعية والثقافية المتجددة، قادرًا على استشراف المستقبل بشجاعة وحساسية. فالمنهاج هنا، كما تصور ديوي، ليس مجرد مجموعة من المعارف تُلقن، بل هو تجربة إنسانية تنمو وتتطور في صيرورة حياة المتعلم، لتصبح معرفة حرة، تحرر الذات وتعيد تشكيل المجتمع.
يستلزم المنهاج القائم على الكفايات تحولًا جذريًا في الثقافة التعليمية، من خلال تبني المساءلة المستمرة والتقييم الذاتي كركائز مركزية، يمارسها المعلمون والمتعلمون بوعي ومسؤولية متبادلة. فإرساء هذه الثقافة النقدية الحية يُعد الأساس الذي يحفظ للمنهاج حيويته وقدرته على التجدد، ويضمن له البقاء في صلب التغيرات المجتمعية والثقافية، متفاعلًا معها ومتجددًا عبر الزمان.
ينسجم هذا التوجه مع تصور ويليام دول (2016) في “المنهاج فيما بعد الحداثة”، حيث يُنظر إلى المنهاج كنص مفتوح، متعدد الأصوات، يحتضن اللايقين ويحتفي بالفوضى الخلاقة التي تولد المعنى. لم يعد المنهاج سلطة تُفرض من فوق، بل أصبح حواراً قائما على التعددية والتفاعل المستمر، يتيح للمتعلم أن يكون فاعلاً ومبدعاً، لا مجرد متلقٍ سلبي.
تُكمل هذا المنظور قيم 4R: الملاءمة (Relevance)، الصرامة (Rigor)، العلاقات (Relationships)، والمسؤولية (Responsibility). هذه القيم متكاملة تجعل المنهاج فضاءً يتحرك فيه العقل والوجدان والفعل بتناغم، ليُصنع من خلاله متعلم كفؤ، حر، وواعٍ بذاته وعالمه.
في قلب هذا المنهاج ينبثق دور المعلم بوصفه مبدعاً ومؤطراً لرحلة تعليمية متجددة، لا ناقلاً جامداً للمعرفة، بل فاعلاً قادراً على قراءة الواقع المحلي وتكييف المحتوى بما يخدم المتعلمين. المعلم الذي يمارس “التفكر أثناء الفعل” (Schön, 1983) قادر على تطوير أنشطة ذات صلة بمجتمعه وبيئته، تجعل التعلم حيا ومعنويا. ويمكن تأطير هذا الدور بفكر جان بول سارتر عن الحرية، حيث يتحرر المعلم من القوالب، ويشجع المتعلم على السير في درب المسؤولية والذاتية الحرة، وهو أيضاً “معلم باحث” لا يتوقف عن استكشاف وتطوير أدواته في ضوء حاجات متغيرة وسياقات معقدة (Goodson, 1997).
لا يكتمل التحول إلى منهاج قائم على الكفايات بمجرد تغيير الأدوار أو تعديل الأدوات، بل يتطلب إعادة بناء شاملة لخيالنا التربوي، تعيد تعريف المدرسة والمعلم والمعرفة ذاتها. إن تفعيل هذا المنهاج كفعل تحرري وكمشروع إنساني يتطلب جملة من الشروط البنيوية والثقافية، نوجزها كما يلي:
تكوين المعلم كمثقف عضوي وذات تأويلية: يجب تجاوز التصور التقني للمعلم نحو إعداد ذات تربوية قادرة على النقد والإبداع، واعية بدورها التاريخي والثقافي، تمتلك القدرة على إنتاج مواقف تعلمية منفتحة ومرتبطة بالسياق، لا تكتفي بنقل المعرفة، بل تسائلها وتعيد تشكيلها باستمرار.
تحويل المحتوى إلى ممارسة تربوية حية ومنفتحة: لا يُنظر إلى “المحتوى” كمادة جاهزة للاستهلاك، بل كمجال للتفكير والسؤال. فالمعلم في المنهاج الكفائي يصوغ المحتوى انطلاقًا من الواقع والبيئة المحلية، ويعيد تأويله بما يتناسب مع حاجات المتعلم وأسئلته الوجودية، فيُصبح المحتوى بذلك ممارسة تربوية تتشكل في الزمن، لا سلعة معلبة سابقة على اللحظة التعليمية.
تحرير الكتاب المدرسي وبناء بيئات تعلم مرنة: لا بد من تجاوز النموذج المغلق للكتاب المدرسي باتجاه بيئات تعلمية مفتوحة ومتعددة الوسائط، تدمج بين المعرفة النظرية والتجريب العملي، وتمنح المتعلم حرية الحركة والتأويل والمشاركة، بما يعزز التعلم الذاتي والتفكير النقدي.
ترسيخ البحث التربوي المحلي كأفق معرفي ووجودي: البحث في هذا التصور لا يُختزل في تقويم المؤشرات، بل يتحول إلى فعل تربوي ناقد ومتحرر، ينتج معرفة منفتحة على التجربة ويعيد النظر باستمرار في الغايات والوسائل. إنه بحث ينبع من الميدان ويعود إليه، ليكون أداة لإعادة بناء الفعل التربوي ضمن أفق كوني وإنساني.
إشراك المجتمع في إنتاج الفعل التربوي لا فقط مراقبته: لا تكتمل جدوى المنهاج إلا بإشراك الفاعلين المحليين – من أسر ومجتمع مدني ومؤسسات ثقافية – في صياغة التجربة التربوية وتوجيه مضامينها. وهذا يقتضي بناء “عقد تربوي جديد” يُعيد رسم العلاقة بين المدرسة والمجتمع والدولة، ويُكرس التعليم كمجال مشترك للمسؤولية والالتزام الجمعي.
الارتقاء بالتربية إلى أفق وجودي وقيمي: في عمق هذا المنهاج، لا تُختزل الكفايات في مهارات قابلة للقياس، بل تُستعاد بوصفها أدوات لبناء الذات الحرة، القادرة على التأمل في العالم، والتفاعل الأخلاقي معه، وصياغة معنى لوجودها فيه. بذلك يتحول التعليم إلى ممارسة وجودية تُحرر الإنسان من التلقين والتشييء، وتمنحه إمكانية التفكير في الحياة بوصفها مشروعًا لا مجرد وظيفة.
تمثل هذه الخطوات لحظة انعطاف مفاهيمي في مسار التربية، تنقلها من منطق الإخضاع المعرفي إلى أفق تحرري يستبطن الإنسان ككائن تاريخي متجذر في سياقه، وفاعل في إعادة تشكيل عالمه. فالمنهاج هنا لا يكتفي بإصلاح الأدوات، بل يعيد مساءلة الغايات، وينفتح على قضايا المعنى والكرامة والعدالة بوصفها شروطاً لوجود تربوي أصيل. وفي تماهٍ مع الرهانات الكونية للإنسانية، يتقاطع هذا التصور مع أهداف التنمية المستدامة، ولا سيما الهدف الرابع الذي ينشد تعليماً شاملاً وعادلاً، بما يجعله منخرطاً في مشروع كوني لتحرير الإنسان من الجهل والتهميش. بذلك، يغدو المنهاج أداة أنطولوجية لبناء الذات الحُرّة، وممارسة جماعية لإعادة تشييد العالم على أسس من الإنصاف والكرامة والاستدامة، لا مجرد آلية تقنية لإنتاج الكفاءات.
ختاماً، المنهاج القائم على الكفايات، بما يحمله من قيم تحررية ورؤية منفتحة على الإنسان والعالم، يشكّل منبراً لاستعادة إنسانيتنا في زمن تتآكل فيه المعاني. هو أفق دائم للتحول، ومجال حي لتشكيل ذوات قادرة على الإبداع والمساءلة. ومع معلم باحث وحر، يصبح التعليم ممارسة مسؤولة للحرية، لا مجرد امتثال لنصوص مغلقة، بل فعلاً إنسانياً يكتمل بالتجدد المستمر والمشاركة الفاعلة. وكلما اتسعت هذه الممارسة التربوية الحرة، اتسعت معها أفق العدالة والمعنى، ليصبح التعليم طريقاً نحو الإنسان الكامل، لا المواطن الطيّع فقط.
في السياق الفلسطيني الراهن، حيث تتقاطع الأبعاد السياسية والحقوقية والقانونية مع واقع الاستعمار الإحلالي، يصبح هذا المنهاج أداة محورية للتحرير الثقافي والسياسي والاجتماعي. إنه رهان على بناء إنسان فلسطيني قادر على مقاومة القهر بالوعي والمعرفة، والمساءلة الأخلاقية، والمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبله، وفقاً لمبادئ العدالة الدولية وحقوق الإنسان. بهذا، يتحول التعليم إلى فضاء للمقاومة، واستعادة السيادة على الذات والهوية، وتأكيد حق الإنسان في التعلم الحر والمستقل، مما يجعل المنهاج ليس فقط أداة تعليمية، بل مكوناً أساسياً في نضال التحرر الوطني والإنساني.