4:46 مساءً / 8 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

نافذ الرفاعي يرسم الحياة على عتبة الموت ، قراءة في رواية “امرأة عائدة من الموت” للروائي نافذ الرفاعي ، بقلم : مريم غسان المصري

نافذ الرفاعي يرسم الحياة على عتبة الموت ، قراءة في رواية "امرأة عائدة من الموت" للروائي نافذ الرفاعي ، بقلم : مريم غسان المصري

نافذ الرفاعي يرسم الحياة على عتبة الموت ، قراءة في رواية “امرأة عائدة من الموت” للروائي نافذ الرفاعي ، بقلم : مريم غسان المصري

ليست رواية “امرأة عائدة من الموت” للروائي (نافذ الرفاعي) مجرّد سردٍ روائي؛ بل هي ثمرة لزرعٍ عميق الجذور في تربة الوعي والالتزام، تجسّد فيها معنى المقاومة والنضال والتحرّر. تنبع المقاومة في الرواية من روح الرفض الصامد، ومن التشبّث الثابت بالأرض والمواقف، لتصبح أفعالُها امتدادًا حيويًا لنبض الشعب وصوته الحر، وقد تجلى ذلك بوضوح في شخصيات الرواية التي أبت الاستسلام وأصرت على المقاومة والتحدي في وجه الظلم ومن ذلك نجد شخصية الراوي الذي جسد بطلًا من أبطال الرواية بالإضافة إلى مرام وسارة وهنادي وأبي يوسف وغيرهم. وقد أجاد (الرفاعي) في تجسيد هذه المقاومة لا كحدثٍ عابر؛ بل كقوة دافعة تسري في عروق السرد، تدفع بالأحداث قدمًا دون انقطاع، حتى بلغَت الرواية نهايتها. ويمكن القول إن الروائي، في بناء عوالمه السردية، كان كالصقر؛ يحدّق بعيونه الثاقبة في أعماق قضايا وطنه، لينقضّ على مواطن الخلل، كاشفًا ما يعتري الواقع من تشوّهات وطنية وسياسية منذ بدء روايته حتى نهايتها التي تقع في مئتين وأربع وسبعين صفحة.


ولا يمكن لأي قارئ أن يُقبل على قراءة عمل روائي ما لم يُشعل فيه لذة الاكتشاف، ويوقظ فيه النشوة العقلية والحسية، ويُشعره بأن ما بين يديه ليس مجرّد نص مكتوب؛ بل تجربة وجودية نضالية متكاملة. هكذا يبدو الحال مع رواية “امرأة عائدة من الموت” للروائي نافذ الرفاعي؛ إذ تتكثف في عتباتها النصية الأولى – العنوان والغلاف واسم الكاتب – إشارات دلالية عميقة، تجعل منها مفتاحًا أوليًا لعالمٍ سرديّ مشحون بالرمزية والمقاومة والانبعاث.


يأتي العنوان محمّلًا بقوة إيحائية لافتة وهو عبارة عن جملة اسمية، تبدأ بكلمة “امرأة”، تلك الكينونة التي طالما ارتبطت بالحياة والخصوبة والاحتواء، لكنه يتبعها بعبارة صادمة: “عائدة من الموت”. وهنا تتقاطع الصدمة مع الأمل، والموت مع البعث، وتفتح أمام القارئ أبوابًا لتأويل هذه الثنائيات الضدية التي حملها الروائي عنوانه السردي: من هي هذه المرأة؟ وما نوع الموت الذي عادت منه؟ هل هو موت حقيقي أم معنوي؟ وهل العودة بعث فردي أم رمزي لجموع النساء، أم ربما للوطن ذاته؟


وفي أعلى الغلاف، يبرز اسم الكاتب نافذ الرفاعي بخطّ واضح كأنّه يعلن عن نفسه بثقة سردية عارمة. والاسم ذاته يحمل دلالة رمزية؛ “نافذ” بما توحي به من النفاذ إلى العمق، والرؤية الثاقبة، والقدرة على اقتحام عوالم المسكوت عنه في المجتمع والسياسة والهوية والمقاومة.


أما اللون الطاغي على الغلاف فهو الأخضر الفاتح، وهو لون يوحي بالحياة والتجدّد والأمل. وهو لون الأرض، والزيتون، والخصب، والذاكرة الفلسطينية كأن الرواية منذ غلافها تبشّر بأن ما مات، يمكن أن يعود، وما غاب يمكن أن يُستعاد. هذا التناسق بين العنوان واللون لا يأتي عفويًا؛ بل يؤسّس لثنائيات ضدية هي: الموت/الحياة، والفقد/العودة التي تبدو حاضرة في متن الرواية كما في غلافها، ومن ذلك ما حضر في المقاطع السردية من الرواية: “مر على شفرة الموت، ولم يبتعد سوى خطوات”، وظهر في الحوار الذي دار بين الطبيب وعبد المجيد حول إنقاذ حياة زوجته من الموت وذلك بإعطائها وحدات دم أكثر من المرة الأولى: “لنعطيها خمسة آلاف وحدة، بدل خمس مئة، دفعة واحدة؛ قد تنجح الصدمة العلاجية، وتحرض النخاع الشوكي ليعود لعمله. تشجع ورتب، لإحضار هذه الجرعة من خلال الصليب الأحمر. وصلت الوحدة. لقد كانت محاولة مجنونة، لم يوافق عليها الأطباء الآخرون، لكن المحاولة أفضل من انتظار الموت. كان قلقًا طوال الليلة، ولم يفارق سريرها وهي تتألم. مع تباشير الصباح، نظر إلى وجهها صافيًا، وبعد أسبوع كانت النتائج تقول، بأن الصدمة قد نجحت”، كذلك في الحوار الذي دار عن شخصية “مرام”: “ليس مهمًا أن تتفوق على نفسها؛ بل على مشاعر الموت. تنحاز إلى الحياة، أي إلى السلام صانع الحياة، ما أجمل أن تستيقظ من الجنون المسجى من الانسحاب الميت، إلى الوعي، إلى الحياة”.


وفي قلب الغلاف، تبرز صورة مرسومة لامرأة عارية، تقف وسط درجٍ لولبيّ، بين عتمة وظلال وشخوص باهتة، فيما تحيط بجسدها هالة ضوء خافت. إنّها صورة تجمع بين الجرأة والرمز؛ فالمرأة هنا ليست جسدًا؛ بل كينونة خارجة من عتمة الماضي نحو ضوءٍ ما، تقاوم التيه والخذلان لتصعد من قاع الموت الرمزي إلى ذروة الوجود. الظلال التي تترصّدها، والدرج الذي تصعده، والوجوه التي تراقب من بعيد – كلّها عناصر بصرية تُترجم صراع الهوية والعودة والتحدي، وتحاكي الحكاية التي تسكن النص قبل أن تُروى، وقد تجلى الحديث عن غلاف الرواية في عنوان الفصل الأخير من الرواية المعنون بــــ “لوحة الغلاف”؛ إذ أراد الروائي من خلال حديثه مع الفنانة التشكيلية “سمر” أن ترسم له امرأة على لوحة الغلاف لا تشبه أي امرأة قادمة من الأساطير أو الزمن اليوناني أو الإسلامي أو العربي؛ إذ أرادها أن تكون فتاة فلسطينية بشخصية بطلة الرواية “مرام”، وهي كما وصفها: “مستهدفة لكل عسف من القدر؛ لكنها لا تجد حطام امرأة؛ بل مرام، المرأة المتدفقة بالحياة”، ومرام هي “تلك الفتاة خفيفة البياض، المائل للون القمحي. لوحتها شمس المتوسط، وعجنتها مع خيوط الشمس في طولها المعتدل، وقدها الساحر؛ ونظرتها الثقابة القادمة من عينين عسليتين، وجه مسلوب يقطر منه الجمال، ويزينه ثغر دائم الابتسام؛ وكأن شفتيها بهما حمرة دائمة”، وهي “امرأة تمتشق الجمال والقوة”، ويرى الروائي بأن “مرام” هي امرأة جميلة كالموناليزا، لكن “مرام” تختلف عنها في أن الموناليزا لم تواجه ما واجهته من صعاب وعقبات في حياتها. إن الروائي أراد لغلافه أن يحمل رسالة فلسفية تمتلئ بالتناقضات الضدية المشحونة بها.


من خلال هذه العتبات، ندرك أن الرواية لا تتعامل مع الموت كحدث بيولوجي؛ بل كحالة فكرية واجتماعية ووطنية. فــــ “المرأة” في العنوان قد تكون الوطن، أو الذات، أو الكرامة، أو القضية، والعودة من الموت تعني الانبعاث من تحت ركام الهزيمة، والنهوض بعد الانكسار، والمقاومة رغم الفقد وهذا ما نلحظه في عدة أحداث في الرواية بدءًا بعنوان كل فصل يعنونه الروائي كهدم بيت أبو يوسف اللاجئ للمرة السابعة، وأسوأ من التوقعات، وفارس العودة، والعودة إلى درب الآلام، والعودة من الموت وغيرها من هذه الأحداث التي وقعت في أربع وخمسين عنوانًا داخل الخطاب الروائي.


هكذا، ومنذ الغلاف، يضعنا “نافذ الرفاعي” أمام عملٍ أدبيّ لا يكتفي بالسرد؛ بل يعيد تعريف الحضور والغياب، ويمنح الأنثى – بوصفها رمزًا – صوتًا جديدًا ينبعث من العدم، لتقول لنا: “ما دام فينا نبض، فالموت لا يستطيع أن يكون نهاية”.


ولكن هذا البُعد الرمزي لا يبقى معلّقًا في الغلاف؛ بل ينغرس في جسد الرواية نفسه، ليتجسّد من خلال شخصية لافتة ظهرت في النص: “الفتاة ذات القبعة الحمراء”. هذه الشخصية لا تدخل إلى الرواية بوصفها امرأة عادية؛ بل كمخلوق غامض يظهر فجأة في حياة الراوي، ويصبح محورًا للتحول السردي. القبعة الحمراء ليست مجرد تفصيل بصري؛ بل رمز مكثّف يُحيل إلى الثورة والأنوثة والاختفاء معًا. الأحمر لون الدم والحياة، والقبعة تُخفي الرأس – مركز الهوية والتفكير – ما يجعل من هذه الفتاة كيانًا رمزيًا قد يعبّر عن القدس نفسها، أو المرأة الفلسطينية، أو الحلم الذي يختبئ تحت الرماد؛ إذ يقول عنها في بداية صفحات روايته: “كم سحرتني فتاة القبعة الحمراء التي مرت بجانبي! لفحتني أنوثتها الصارخة كما قبعتها الحمراء الفاقعة. فتاة تتمايس، وتبث شهوانية في المكان، تتحد مع قداسته في ثنائية متوحشة، تنثر خطورتها مثل مقاتلي بوليفيا؛ يزين سيجار جيفارا صدرها، سمرتني مكاني مشدوهًا، ليس وحدي؛ بل كل من هناك انجذب نحوها، وراقب خطواتها الهادئة، وتداخلت في ذهنه مشاعر وأفكار متناقضة. فتاة القبعة الحمراء كالشرق. الشرق امرأة ساحرة يحب مخاطبتها بصيغة الأنثى التي لها دلال وهيبة”، ويكمل قوله واصفًا إياها: “على ثوبها نقش الرقم سبعة، تساءل عن رابط الرقم بالأنثى، وعن دورة الشرق العجيب وسباعياته الغامضة؛ ما بين سبع عجاف وسبع سمان، وصلب المسيح في أربع عشرة مرحلة، أي سباعيتين”.


الراوي الذي هو الروائي نفسه، يلتقي بهذه الفتاة في القدس، لكنه لا يدخل المدينة بسهولة؛ بل يضطر إلى الهروب بوسائل ملتوية: يختبئ في شاحنة، ويقفز عن سور، ويتسلل في الظلام. هذه الرحلة إلى القدس تحمل دلالات تتجاوز الحدث الظاهري، فهي تشبه رحلة الكاتب إلى ذاته، وتاريخه، وجرحه الأول. اللقاء بالفتاة في المدينة المقدسة يبدو كتجسيد لــ “لقاء الحلم بالواقع”، أو “التخييل بالحقيقة”؛ لأن كل مرة يلتقيها يكون أكثر انكشافًا، وأكثر رغبة في الحكي والانكشاف.


تتكرر اللقاءات، وتتشعّب القصص، فلا تنتهي الرواية عند خط سردي واحد؛ بل تتفتّح على قصصٍ متداخلة ترويها الفتاة للروائي أو يرويها الروائي للفتاة، ويبدو كأنه يكتبها في اللحظة ذاتها. أبرز تلك القصص هي قصة “مرام”، المرأة التي اختارت الموت، تاركة خلفها ابنتها “ديانا”، ثم تعود فجأة للحياة. “مرام” ليست فقط الشخصية التي تُجسّد عنوان الرواية؛ بل هي التجسيد السردي للمرأة الفلسطينية التي يُراد لها أن تموت، أن تصمت، لكنها تعود – بصوت، برغبة، بحكاية.


قصة “مرام” تمثّل ذروة التخييل وهي التي تتوزع بين الصفحات داخل الرواية؛ لأننا لا نعرف إن كانت “مرام” شخصية واقعية فعليًا أم إحدى ابتكارات الراوي. ومع ذلك، فإن حضورها يثير في القارئ شعورًا بأنها جزء من الحقيقة، أو أقرب إلى ما يُسمّى “الواقع المتخيل”، وهو ما يتقنه الروائي “نافذ الرفاعي” ببراعة، حين يكتب بأسلوب يجعل من الخيال امتدادًا للواقع، لا نقيضًا له.


الرواية إذًا لا تسرد حكاية واحدة؛ بل تنسج شبكة من الحكايات المتقاطعة، عبر لغة مشحونة، وإيقاع نفسي داخلي، يدمج بين الحنين والجرح والمقاومة، ويمنح الأنثى دور الراوي لا المروي عنها، لتصبح كل امرأة في الرواية – من القبعة الحمراء إلى مرام – صوتًا من أصوات البعث، أو حكاية مؤجلة تم إحياؤها بالسرد.


في نهاية المطاف، يمكن القول إن “امرأة عائدة من الموت” ليست رواية عن الموت؛ بل عن التحدي والكتابة والانبعاث. ليست عن امرأة واحدة؛ بل عن كل النساء اللاتي خيضت الحرب على وجودهنّ، وكل الأوطان التي قررت ألا تموت بصمت؛ بل أن تُروى، وأن تُحبّ، وأن تعود، ولو من الرماد.

شاهد أيضاً

المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، قوه جيا كون

الخارجية الصينية : الصين تدعو لوقف إطلاق النار فوراً ، وقطاع غزة جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية

شفا – قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية قوه جيا كون ، أن الصين تُعرب …