
بين النجاة والرمز ، ما تقوله غزة للعالم ، بقلم : المهندس غسان جابر
عندما كتبت الأستاذة غانية ملحيس مقالها الأخير بعنوان “مصافحة مبعوث ترامب في غزة: سجال في معنى النجاة وسقوط الرمز”، لم تكن تلاحق حدثًا عابرًا، بل كانت تُطارد صورة مشحونة بكل ما في اللحظة الفلسطينية من تعقيدٍ ورمزيةٍ وألم.
المصافحة بين امرأة فلسطينية وجائعها، وبين مبعوث إدارة أمريكية متواطئة مع الإبادة، لم تكن مجرد لقطة – بل لحظة صدام بين الكرامة والبقاء، بين الصورة والسياق، بين الرمز والاضطرار.
السجال الذي نشأ بعد المقال، وتحديدًا مع الصديق شجاع الصفدي، لم يكن سجالًا بين ضفتين متخاصمتين، بل حوارًا بين موقفين مؤمنين بجوهر واحد: الانحياز للشعب الفلسطيني وكرامته.
فغانية، المثقفة الفلسطينية الأصيلة، لم تُدن المرأة، ولم تضعها في قفص الاتهام. بل وجّهت بوصلة النقد إلى البنية السياسية والرمزية التي جعلت من الجوع أداة، ومن المصافحة مخرجًا، ومن الضحية شريكًا في مشهد إخراجي يراد به تبييض وجه الاحتلال.
أما شجاع، فكان لسان حال من احترقت أصابعه بالجوع، وعايش تفاصيل الطوابير لا من بعيد، بل من قلبها. صرخته كانت صرخة غزيٍ يرى الواقع كما هو، لا كما يُفترض أن يكون. وكان محقًا في رفضه للوعظ الأخلاقي حين يتحول إلى إدانة للجائع لا للذي جاعه.
ما أحوجنا اليوم إلى مثل هذا السجال الذي يميز بين الناجي والسياق، بين الفعل الفردي والبنية التي فرضته، بين لحظة المصافحة، وما سبقها من عقود من التخلي والتواطؤ والخذلان.
ليس من مسؤوليتنا أن نحاكم امرأة جائعة، بل أن نكشف كيف تحوّلت لقمة العيش إلى ورقة ضغط، والمساعدات إلى طُعم في مصيدة سياسية، والرموز إلى سلعة تُباع في سوق الخداع الإعلامي.
كتابة غانية ملحيس جاءت على مستويين:
تفهّم عميق لإنسانية من اضطُرت إلى المصافحة،
وتحليل دقيق للبنية التي رتبت هذا المشهد ليظهر للعالم على أنه “شهادة حياة”، لا مجزرة موثقة.
وفي ذلك، تكرّس غانية مثالًا للمثقف الذي لا يكتفي برثاء الضحايا، بل يلاحق المعنى، ويصوغ المعايير، ويدافع عن الحق في رؤية أوضح.
لا ينبغي لهذا النقاش أن يُفهم كترف ثقافي. إنه جزء أصيل من معركة الوعي الفلسطيني، معركة استعادة القدرة على التأويل، ورفض تسطيح الرموز، وتعرية من يريدنا أن نصفق للقاتل لأنه مدّ يده بخبز، بعدما منع الماء، وقصف البيوت، وسرق المعنى.
إن هذا النوع من الحوارات الرفيعة، القادرة على الجمع بين الألم والوعي، بين الوجدان والتحليل، هو ما نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى.
فنحن لا نخوض معركة سياسية فقط، بل نخوض معركة على اللغة، على الرموز، على تمثيل الجوع، وتمثيل الصمود.
وغزة، كما كانت دومًا، ليست فقط ساحة للدم، بل مرآة تعكس ملامحنا نحن:
هل نرى الحقيقة كما هي؟
هل نفرّق بين النجاة والانكسار؟
هل نملك شجاعة أن نقول: نعم، نفهم من ينجو، لكننا لا ننسى من جعله يركع.
الشكر للأستاذة غانية ملحيس، وللصديق شجاع الصفدي، على هذا الحوار الذي لم يكن سجالًا في “مصافحة”، بل بحثًا عميقًا عن جوهر ما نعيشه:
من يروي القصة؟
ومن يصوغ الرمز؟
ومن يحدد الفرق بين الضرورة والتطبيع؟
في زمن المجاعة السياسية، والنفاق الدولي، وسقوط البنى التمثيلية، لا بد من منارة فكرية تُذكّرنا: أن بوصلة فلسطين لا تزال تنبض، شرط أن نجرؤ على مواجهة المأساة… لا على تبريرها.
- – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.