2:06 مساءً / 7 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

“أيام الغبار” ، حين تُحبّك البلاد كما تُجففك ، قراءة نقدية وجدانية فلسفية في رواية سعيد نفاع “أيام الغبار” ، بقلم : رانية مرجية

“أيام الغبار” ، حين تُحبّك البلاد كما تُجففك ، قراءة نقدية وجدانية فلسفية في رواية سعيد نفاع “أيام الغبار” ، بقلم : رانية مرجية

“أيام الغبار”: حين تُحبّك البلاد كما تُجففك ، قراءة نقدية وجدانية فلسفية في رواية سعيد نفاع “أيام الغبار” ، بقلم : رانية مرجية

في “أيام الغبار”، لا يدوّن سعيد نفاع سيرةً شخصية، ولا يكتب رواية بالمعنى الكلاسيكي، بل يخطّ سفرًا وجوديًا عميقًا عن تلك اللحظة التي ينهار فيها الوطن داخل القلب، وتضيع فيها المحبة بين مطرقة التقاليد وسندان الاحتلال. روايته تشبه الزمن الفلسطيني نفسه: ملبّدة، مربكة، شديدة الرمزية، تائهة بين العشق والمنفى، بين الفقد والانبعاث.

هنا لا يهبط الغبار من السماء، بل ينبعث من الأرض. من الذاكرة. من اللغة. من الأرواح التي تحاول الحياة رغم الحصار المزدوج: السياسي والاجتماعي، الطائفي والوجداني.

الغبار ليس ترابًا.. بل ذاكرة معلّقة في الهواء

الغبار في الرواية ليس مادةً جامدة، ولا مجازًا متعبًا، بل هو الكائن الحيّ الثالث في الحكاية. يتسلل إلى الحواس، إلى العلاقات، إلى العيادة الصغيرة التي بناها راشد وجوليا في بلدة فلسطينية جبلية. حتى الحبّ في هذا المكان لا يُبنى من ضوء، بل من رماد. من دخان الندم. من خوف مرسوم على وجوه من يخشون الخروج عن العرف.

الغبار في هذا السياق هو استعارة وطنية مذهلة: فكما أن الغبار يخنق الأنفاس دون أن يُرى، كذلك تفعل بنا أنظمة القمع، العقائد المنغلقة، وتلك التربية التي تخشى الحبّ وتعبد الخضوع.

الحكاية: جسد يُحب في زمن مكسور

راشد، الطبيب الدرزي، يقع في حب جوليا، الممرضة المسيحية، بكل ما يحمل كل منهما من جراح. لا نتحدث عن حبٍّ بسيط أو عاطفةٍ مراهقة، بل عن غرامٍ يشبه العصيان. عصيان على الانتماء الطائفي، على القرى التي تراقب من خلف الشرفات، على العائلة، وعلى صورة الذات الموروثة.

جوليا بدورها ليست أنثى من ورق، بل امرأة مزّقتها الحياة مبكرًا: اغتصاب، طلاق، هجرة داخلية، وعودة باهتة. لكنها تحبّ. وتقرر أن تحبّ. ورغم أنّ الكاتب لم يمنح صوتها الداخلي المساحة التي يستحقها، إلا أن حضورها يُفهم كصوت الأنثى المقهورة التي تقاوم بنبضها لا بكلماتها.

أبعاد ثلاثية: الحب، الطائفة، الوطن

في “أيام الغبار”، الحب ليس نقيضًا للسياسة، بل أحد فروعها. والحياة اليومية التي يعيشها الثنائي راشد وجوليا ليست رومانسية بل سياسية، لأن مجرد وجودهما كزوجين، وكطبيب وممرضة من طائفتين مختلفتين في عيادة واحدة، هو تحدٍّ للخطاب الطائفي، ورفض لقسمة الجغرافيا الروحية التي فُرضت علينا بفعل الحداثة الاستعمارية والدين المعلّب.

والكاتب يُدخلنا إلى عالم الطائفة الدرزية من الداخل، في مشاهد نادرة، حيث تتجلّى الهوية المركبة. راشد لا يصرّح بأنه ثائر، لكنه يناضل بجسده وبقراره وبحبّه. الرواية تقدم مشهدًا صريحًا للانقسام العميق بين الولاء المفروض والانتماء الفعلي، وتُذكّرنا بأن الاحتلال لا يبدأ عند الجندي على الحاجز، بل في المفهوم الطائفي للوطن والمواطن.

تقنية السرد: صوت يبوح بالحقيقة ويتهرب منها

الكاتب يختار صوتًا سيريًا، لكنه لا يقع في فخّ الاعتراف الكامل. ثمة ما يشبه الاعترافات المبطنة، المجتزأة، التي تُخفي أكثر مما تُظهر. النثر في الرواية شاعري حتى في وصف أكثر المشاهد قسوة، فيخلط بين التوثيق الشخصي والسرد الأدبي. يذكّرنا ذلك بروايات ما بعد المنفى، حيث يصبح السؤال عن المكان مرادفًا للسؤال عن الذات.

وهذا ما يُحسب للرواية: لا تنتمي لنمط “الرواية الوطنية” التي تقدّس الشعارات، ولا “الرواية العاطفية” التي تُجمل الواقع. إنها رواية عن بشرٍ حقيقيين يخطئون ويحبون ويهربون، ثم يعودون إلى قبورهم أحياءً.

ملاحظات نقدية لا تُلغِي الإنجاز

ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى بعض نقاط الضعف البنيوية في العمل، ومن بينها:

غياب العمق الداخلي الكامل لشخصية جوليا: رغم رمزيتها القوية، تبقى جوليا صوتًا غير مكتمل. حضورها الفعلي في السرد أقل من الأثر العاطفي الذي تتركه، وكان يمكن للكاتب أن يمنحها مساحات بوح أوسع.

اللغة الرمزية المكثفة: في بعض المواضع، تكاد الرواية تختنق بكثافة الاستعارات والمجازات، ما قد يُثقل القراءة ويجعل من السرد الأدبي خطابًا فلسفيًا أكثر من كونه تصويرًا روائيًا.

توظيف بعض الشخصيات الثانوية كوظائف رمزية: كمثال على ذلك، شخصية أنس، الابن، تبدو أقرب إلى صوت الضمير أو التكرار النقدي للبطولة الأبوية أكثر منها شخصية مستقلة بذاتها.

الختام: حين يتحول الغبار إلى مرآة

“أيام الغبار” ليست رواية بقدر ما هي مرآة مُغَبَّرة لما نرفض أن نراه. حبٌّ فلسطيني ممزق بين المقدّس والمدنّس، بين الموروث والمستقبل، بين القبيلة والوطن. وهي بذلك، لا تُجمل الواقع، ولا تتأمله بحياد، بل تسحب القارئ إلى داخل العاصفة وتجعله جزءًا منها.

بصوتها الحيّ، تُذكّرنا الرواية أننا لا نُخلق من الطين فقط، بل من الغبار أيضًا. من تلك الذكريات التي لا تموت، ومن تلك الهويّات التي نحملها كندوب لا تُشفى.

وإن كان لا بد من نصّ فلسطيني معاصر يُقْرأ كفعل مقاومة داخلية، فإن “أيام الغبار” تستحق أن تكون في الصفّ الأول

شاهد أيضاً

"ديان تشا" أسلوب تحضر الشاي الذي يرجع أصله إلى عهد أسرة سونغ الملكية في قرية جينغشان بمدينة هانغتشو

الصين : “ديان تشا” أسلوب تحضر الشاي الذي يرجع أصله إلى عهد أسرة سونغ الملكية في قرية جينغشان بمدينة هانغتشو

شفا – يعود تاريخ مهارة “ديان تشا” إلى ألف سنة. وزار عدد من السياح من …