
شكرٌ من القلب للناقدة والشاعرة إيمان مصاروة ، بقلم : رانية مرجية
حين تقرأكِ ناقدةٌ تحمل قلب شاعرة وروح راهبة في محراب الكلمة، لا يعود النص لك وحدك، بل يصبح مرآةً مضيئة تنعكس فيها أسرارك وأبعادك البعيدة، تلك التي لم تجرؤ حتى أنتِ على سبرها.
شكرًا لكِ، إيمان مصاروة، على قراءتكِ التي لم تكن مجرّد تحليل أدبي، بل كانت صلاة من نوع آخر، عميقة ومضيئة، تتلو حروفها بخشوعٍ وتفكّك أسرار النص بحنانٍ عارف، كما لو كنتِ تضعين يدك على نبضي، وتقرأينني من الداخل، لا من الخارج.
شكركِ لا يليق أن يُختزل بكلمات، فقد جعلتِ من قصيدتي “خبزُها… كتب، وصلاتُها قصائد”، نصًا يولد من جديد في فضاءات القراءة الروحية والنقد الحيّ. لقد أنرتِ البعد الرمزي الذي خفي على كثيرين، حين رأيتِ في الأم قدّيسة لا تزكيها الكنائس، بل يباركها الفعل الإنساني اليومي، فتجعل من الخبز كلمات، ومن الجوع صلاة، ومن الأمومة نبوءة أدبية تمسك بيدي كي لا أسقط في متاهات العدم.
أعدتِ لي قصيدتي محمّلة بدلالات صوفية ووجودية كنتُ أعي بعضها وأغفل عن البعض الآخر، وها أنتِ تكشفينها لي بمحبة ونُبل، كما لو كنتِ تُنصتين لهمسات أمي من بين السطور، وتترجمين طقوسها الحياتية إلى رؤيا نقدية ملأى بالنور.
حين قلتِ إن الكتابة عندي صارت طقسًا، وإن القصيدة معراجًا نحو الخلود، شعرتُ أن أمي ـ تلك التي كانت تقرأ القصائد كمن يتلو أسماء الله في العتمة ـ تبتسم من بين الغيم، وتقول لي: “أرأيتِ؟ لقد فهمتْني إيمان كما كنت أودّ أن يُفهم قلبي.”
كلماتكِ أعادت لي معنى الكتابة في زمنٍ نخشى فيه من أن تُنسى القيم، ومن أن يُهمّش الجمال في ضجيج هذا العالم. لقد أثبتِ أن النقد حين يصدر عن شاعرة، يتحول إلى فعل حب، إلى جسر روحي بين الكاتبة ومرآتها، بين القصيدة وأصلها الغيبي.
أشكركِ إيمان،
لأنكِ لم تقرئي القصيدة فقط، بل صلّيتِها.
أشكركِ،
لأنكِ جعلتِ أمي تُولد من جديد بين كلماتك.
أشكركِ،
لأنكِ بقراءتكِ، كتبتِني من جديد.
برقةٍ لا تشبه إلا قلبك،
رانية مرجية
تتمحور قصيدة “خبزُها… كتب، وصلاتُها قصائد”… للشاعرة رانية مرجية حول علاقة المتكلم بالأم، متخذةً من الكتب والقراءة فضاء رمزي يتجاوز المعنى المباشر إلى دلالات روحية وجودية. تُقدم الشاعرة صورة الأم باعتبارها قديسة مما يؤسس لمفهوم مختلف للقداسة والذي يرتبط بالفعل الإنساني الحياتي…
ويظهر التحول الروحي عند الشاعرة مرجية في العنوان “خبزُها… كتب، وصلاتُها… قصائد” كمفتاح دلالي يؤسس لتحويل الكتب من أوعية معرفية إلى غذاء روحي وجسدي، حيث تتجلى هنا الثنائية كما وردت في النص الشعري: (الخبز/الكتب) و(الصلاة/القصائد)، التي تتداخل فيها المقدس والدنيوي، حيث تصبح القراءة فعلاً طقوس والكتابة ممارسة أو عادة عند الشاعرة.
القصيدة تبدأ بمخاطبة الأم: “يا قدّيسةً لم تُزَكِّها الكنائس،/ولا رفعها المذبحُ فوق الجدران”، هذا التناقض يؤسس لنقد المؤسسة الدينية التقليدية، ويستبدل ذلك في قداسة تتمثل في الأفعال الحياتية والتجارب الانسانية كما ورد في نصّ مبدعتنا رانية مرجية والتي تقول: “في كلِّ سجدةٍ،/وفي كلِّ دمعةِ تائب،/وفي كلِّ ابتسامةِ أمٍّ/تداري جوعَ أولادِها بالحنان، وتتابع:
“كنتِ تقتنين لي أجملَ ما كُتب في الأدب،/كأنكِ تعلمين أن الكلمات/ستكون نجاتي/في عمرٍ لا يُؤمَنُ فيه بالنجاة.” وهنا تتحول المكتبة في النص إلى فضاء للخلاص والنجاة، حيث نجد أنَّ الاستعارة تحمل بعداً نبوئياً في تصوير الأم وكأنها تمتلك بصيرة تتجاوز زمنها من خلال الكتابة والتميز في حياة ابنتها مرجية.
و تتجلى المفارقة في القصيدة، “خبزُها… كتب، وصلاتُها قصائد”، بين الجوع المادي والشبع الروحي، بحيث يظهر تحول الماديات إلى روحانيات في قول الشاعرة: “كم من مرةٍ عدتِ بالكتبِ بدلَ الخبز،/وبالقصائدِ بدلَ الحلوى”مع تأكيد الأم على أن: “الشِّعرُ يُشبعُ أكثر، يا صغيرتي،/والقصصُ تنبتُ فيكِ أجنحة/حين تنكسر الأبواب” هذه الصورة تستدعي التراث الصوفي الذي يرى في المعرفة غذاءً للروح يتجاوز احتياجات الجسد، وتصور الشاعرة الأم وهي تقرأ: “تقرئين القصائدَ كمن يصلّي،/كمن يتهجّى أسماءَ الله في العتمة/ويجد فيها ملاذًا وضياء.” وهنا تشبيه جميل يحول فعل القراءة إلى طقوس دينية، مما يعكس رؤية ميتافيزيقية للأدب باعتباره مصدراً للنور الروحي لدى الأم.
الكتابة كخلود….
إنَّ تأكيد الشاعرة على خلود الكتابة يتجلى في قولها: “حين أكتبكِ اليوم،/لا أكتب عن موتٍ ولا عن فُقدان،/بل عن حياةٍ أبديةٍ/أسكنها كلما قرأتُ كتابًا،/كلما كتبتُ قصيدة”، ففكرة الكتابة تتجلى كوسيلة للتغلب على الموت واستمرار وجود الأم حتى بعد رحيل الجسد فتبقى روحها معلقة بكل حيثيات الفكر والحياة!!
البنية اللغوية والأسلوبية…
تتميز القصيدة بلغة تجمع بين البساطة والعمق، مع توظيف معجم ديني/ قدّيسة/ المذبح/ سجدة/ تائب/ صلاة/ أسماء الله”/ ومعجم أدبي ثقافي: كتب/ قصائد/ الكلمات/ القصص/، هذا التداخل المعجمي يعكس الفكرة المركزية للقصيدة: تحويل الأدب إلى دين وقدسية.
تتنوع أساليب الشاعرة في قصيدتها بين الخبر والإنشاء، اضافة للجمل الاسمية التي تعكس ثبات صورة الأم في ذاكرة الشاعرة كما رافقها أسلوب المخاطبة المباشرة للأم، وأخيرًا نجد أنَّ نصّ الشاعرة رانية مرجية يحمل أبعاداً وجودية تتعلق بالخلاص والخلود
خبزُها… كتب، وصلاتُها… قصائد
بقلم: رانية مرجية
يا قدّيسةً لم تُزَكِّها الكنائس،
ولا رفعها المذبحُ فوق الجدران،
لكنني كنتُ أراكِ
في كلِّ سجدةٍ،
وفي كلِّ دمعةِ تائب،
وفي كلِّ ابتسامةِ أمٍّ
تداري جوعَ أولادِها بالحنان.
منذ جيلِ العاشرة
وأنتِ تحرسين مكتباتِ المدينة
كأنكِ ملاكٌ موكَّلٌ بجمعِ الكتبِ النادرة،
كنتِ تقتنين لي أجملَ ما كُتب في الأدب،
كأنكِ تعلمين أن الكلمات
ستكون نجاتي
في عمرٍ لا يُؤمَنُ فيه بالنجاة.
كم من مرةٍ عدتِ بالكتبِ بدلَ الخبز،
وبالقصائدِ بدلَ الحلوى،
وتقولين لي همسًا:
“الشِّعرُ يُشبعُ أكثر، يا صغيرتي،
والقصصُ تنبتُ فيكِ أجنحة
حين تنكسر الأبواب.”
كنتِ قارئةً عظيمة،
لا تحفظين النصوص، بل تسكنينها،
تقرئين القصائدَ كمن يصلّي،
كمن يتهجّى أسماءَ الله في العتمة
ويجد فيها ملاذًا وضياء.
وحين كنتِ تقرئين بصوتكِ الخفيض،
كانت الحروفُ تذوبُ كالشمع،
وكانت الجدرانُ تُصغي،
كأنها تسمعُ صدى امرأةٍ
لا تخافُ من الحقيقة،
ولا تتوارى خلف الأقنعة.
يا أمي…
حين أكتبكِ اليوم،
لا أكتب عن موتٍ ولا عن فُقدان،
بل عن حياةٍ أبديةٍ
أسكنها كلما قرأتُ كتابًا،
كلما كتبتُ قصيدة،
كلما شعرتُ أن الأدبَ صلاتي
وأنكِ أولُ من أرشدني للقبلة.
يا مَن علمتِني أن اللهَ لا يُعبَدُ بالخوف،
بل يُحَبُّ كما أحببتِني،
بلا شروط،
بلا حساب.