1:22 صباحًا / 7 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

الأديب الإسرائيلي الشهير ديفيد غروسمان يقرّ بالإبادة الجماعية ، بقلم : د. ماهر الشريف

الأديب الإسرائيلي الشهير ديفيد غروسمان يقرّ بالإبادة الجماعية ، بقلم : د. ماهر الشريف

بعد قيام منظمتين إسرائيليتين في مجال حقوق الإنسان، هما “بتسيلم” و”أطباء من أجل حقوق الإنسان”، باتهام إسرائيل، في أواخر شهر تموز/يوليو الفائت، بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، صدر، في الثالث من شهر آب/أغسطس الجاري، بيان وقّعه عشرات المثقفين الإسرائيليين تحت عنوان “إعلان مجتمع الثقافة: لنوقف الفظائع في غزة”، أثار جدلاً واسعاً بدعوته إلى “وقف الحرب” وعدم ارتكاب “جرائم حرب”، وجاء فيه: “نجد أنفسنا، رغماً عن إرادتنا وقيمنا، وبصفتنا مواطنين في إسرائيل، شركاء في المسؤولية عن الأحداث المروّعة في غزة، ولا سيما قتل الأطفال والمدنيين، والتجويع، وتهجير السكان، والدمار العبثي للمدن” (1).

بيد أن الموقف الذي ترك أصداء واسعة في الأوساط الثقافية الغربية كان موقف الأديب الإسرائيلي ديفيد غروسمان (1954-)، الذي يُعدّ من أبرز الشخصيات الأدبية الإسرائيلية، والفائز بجائزة رئيس الوزراء للإنجاز الإبداعي، وبجائزة إسرائيل للأدب، وبعدة جوائز أخرى، ويُرشّح اسمه بانتظام لجائزة نوبل في الأدب وتُرجمت كتبه إلى لغات عديدة؛ فهذا الأديب أقرّ، مؤخراً، بأن بلده يرتكب إبادة جماعية في قطاع غزة.

إنها حرب إبادة جماعية

في مقابلة مع صحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية اليومية، وصف ديفيد غروسمان حرب إسرائيل في قطاع غزة بـ”الإبادة الجماعية” لأول مرة، وقال في هذه المقابلة، التي نُشرت يوم الجمعة، في الأول من هذا الشهر: “لسنوات، رفضتُ استخدام مصطلح ‘إبادة جماعية’، لكنني الآن لا أستطيع التوقف عن استخدامه، بعد ما قرأته في الصحف، وبعد الصور التي رأيتها، وبعد حديثي مع أشخاص كانوا هناك”. وأضاف أنه “مضطر لرؤية ما يحدث أمام عينيه بألم شديد وقلب مكسور”. ومع أن مصطلح الإبادة الجماعية “صادم بمجرد نطقه، ويزداد وقعه كالانهيار الجليدي ويجلب المزيد من الدمار والمعاناة،”، ومع أنه “بذل كل ما في وسعه لتجنب وصف إسرائيل بأنها دولة إبادة جماعية”، إلا إنه “يشعر بالأسف عندما يقرأ أرقام الضحايا في قطاع غزة، ويرى مظاهر المجاعة التي فرضتها إسرائيل”، مشيراً إلى “أن الجمع بين كلمتي “إسرائيل” و”المجاعة”، استناداً إلى تاريخنا، وحساسيتنا المُفترضة تجاه معاناة البشرية، والمسؤولية الأخلاقية التي لطالما أكدنا على مسؤوليتنا تجاه كل إنسان، وليس اليهود فقط… كل هذا مُدمر”.

وفي تعارض واضح مع توجهات الحكومة الإسرائيلية، قال ديفيد غروسمان إنه يظل “مخلصاً بشدة” لفكرة الدولتين، فلسطين وإسرائيل، وذلك أساساً لأنه لا يرى “بديلاً”، مرحباً، في هذا السياق، برغبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيلول/سبتمبر القادم، وعلّق على ذلك بقوله: “أعتقد أنها فكرة جيدة، ولا أفهم الهستيريا التي استُقبلت بها في إسرائيل…من الواضح أنه لا بد من توفر شروط محددة: منع الأسلحة، وضمان انتخابات شفافة تستبعد كل من يفكر في استخدام العنف ضد إسرائيل” (2).

“إدانة الاحتلال ولكن من دون إنكار مسؤولية الفلسطينيين”

بينما عبّر ديفيد غروسمان في كتاباته، منذ سنوات، عن تحسسه معاناة الفلسطينيين التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي عليهم، فهو أكد أن هذا لا يعني “تبني قضيتهم بصورة عمياء”. ففي مقال كتبه بعنوان: “إسرائيل وشر التاريخ”، في حزيران/يونيو 1991، غداة حرب الخليج وقصف الصواريخ العراقية ضاحية تل أبيب، أوضح طبيعة التزام أنصار “السلام” في إسرائيل وحدوده، ملاحظاً أن الأمر “لا يتعلق بتبني قضية الفلسطينيين بصورة عمياء وإنما تمييز ما هو عادل في أسباب الخصم، وتحضير الرأي الإسرائيلي للاستماع إلى ما تنطوي عليه من معقولية، والانتباه إلى أن لا تستخدم الكلمات لنزع إنسانية الخصم”، ومقترحاً على الإسرائيليين والفلسطينيين ليس “العدل المطلق، الذي يمكن أن يكون قاتلاً”، وإنما “العدل النسبي”، القائم على “إدانة الاحتلال والقمع الإسرائيليين، ولكن من دون إنكار مسؤولية الفلسطينيين”.

ورأى ديفيد غروسمان أن الانتفاضة الفلسطينية حملت، “رغم دمويتها وألمها بالنسبة للطرفين”، بذرة أمل حقيقي بالتوصل إلى حل، لكن الفرصة التي انطوت عليها تم تضييعها، والمسؤولة الأولى عن ذلك هي الحكومة الإسرائيلية: “فمن خلال ازدرائهم وعماهم السياسي، أضاع زعماؤنا الفرصة، ورفضوا، باحتقار، أن يتعاملوا بصورة جديدة مع تصريحات الزعماء الفلسطينيين، وسخروا من كل تظاهرة تعبر عن اعتدال، وسجنوا زعماء كان الحوار معهم ممكناً، وعوضاً عن تشجيع العناصر الأكثر واقعية بين الفلسطينيين، وفروا للمتطرفين أسلحة نفسية وإيديولوجية، تزيد النزاع اشتعالاً”.

وخلافاً لموقف الزعماء الإسرائيليين، راح يحدث، كما تابع، تغيير معتبر داخل الرأي العام الإسرائيلي عشية السنة الثالثة للانتفاضة، “ليس جراء تعاطف عميق مع الفلسطينيين بقدر ما كان تعبيراً عن تململ إزاء التوتر وحالة الحرب”. وبينما استدار بعض الإسرائيليين نحو اليمين المتطرف و”أغرتهم فكرة الترانسفير غير الأخلاقية”، دعا آخرون إلى “الانسحاب الفوري، الأحادي الجانب، وإحداث قطيعة مطلقة إزاء الأراضي المحتلة، وهي فكرة متهورة، يمكن أن تعطي الفلسطينيين كل ما يرغبون فيه من دون أن يمروا، هم أيضاً، بمرحلة مؤلمة ونيرة للتنازل، ومن دون أن تحصل إسرائيل في المقابل على ما تأمله من تسوية حكيمة”.

وأخذ غروسمان على أغلبية الفلسطينيين دعمهم، خلال الانتفاضة، قيام العراق بغزو الكويت وضمه، وتأييدهم إطلاق الصواريخ العراقية على إسرائيل، كما أخذ على اليسار الإسرائيلي اعتباره الفلسطينيين “بمثابة أطفال لا يتحملون مسؤولية، وتقديم العذر لأفعالهم بحجة اليأس”، مقدّراً أن هذا اليأس “كان من الممكن أن يقودهم، مثلاً، إلى رؤية أكثر واقعية للوضع”، وأن يفهموا “أن عليهم أن يسحبوا دعمهم من ذاك الذي يسلب حرية شعب آخر، وأنه لا يمكن علاج الظلم بظلم آخر”. وخاطب الفلسطينيين بقوله: “أنا لا أتحدث عن أن نحب بعضنا بعضاً، فالحب لن يسود فيما بيننا، بل نصنع السلام جراء تراكم مصالح”، ذلك إننا “نحن وأنتم نتقاسم عدداً من المصالح المشتركة؛ فنحن وأنتم ندخل القرن الحادي والعشرين منهكين، ومتأخرين في تطورنا، وسكبنا أفضل ما عندنا من دم في جرح واحد، ونربّي أجيالاً من الأطفال مصابين بالعدوى…، وأنا لا أشك مطلقاً في أنكم ستغذون مثلنا الأمل في بلوغ يوم ينتهي فيه هذا النزاع فيما بيننا، وأنتم أكثر من أي شعب آخر في المنطقة ستربحون كل شيء من حل هذا النزاع” (3).

مثّلت الانتفاضة الثانية، التي أعقبت قيام حكومة إيهود باراك بتحميل ياسر عرفات مسؤولية فشل المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية في منتجع كمب ديفيد، صدمة كبيرة لأنصار “السلام” في إسرائيل، ومنهم ديفيد غروسمان الذي صرّح بأنه “لا ينبغي الوثوق بالفلسطينيين”، وأعلن، في عريضة قدمها في 2 كانون الثاني/يناير 2001 ونشرتها صحيفة “هآرتس”، “معارضته حق العودة للاجئين الفلسطينيين”. وفي تموز/يوليو 2006، أيّد الحرب التي شنتها إسرائيل على جنوب لبنان، لكنه اعتبر تمديد هجوم الجيش الإسرائيلي “غير ضروري”، وأصدر، في 10 آب /أغسطس 2006، قبل يومين من مقتل ابنه أوري في الحرب، برفقة الكاتبين عاموس عوز وأبراهام يهوشوع، نداءً في صحيفة “هآرتس” يدعو الحكومة الإسرائيلية لقبول وقف إطلاق النار كأساس لحل تفاوضي، واصفاً استمرار العمل العسكري بأنه “خطير وغير مُجدٍ” (4).

وفي خطاب ألقاه في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2006، أمام 100 ألف شخص تجمعوا في “ساحة رابين” لإحياء ذكرى اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أكد أن الحرب التي خاضتها إسرائيل في لبنان “بيّنت أن القوة العسكرية التي نمتلكها، في النهاية، لا يمكنها وحدها ضمان وجودنا، والأهم من ذلك كله، اكتشفنا أن إسرائيل تمر بأزمة أعمق مما كنا نخشى، في كل مجال تقريباً”.

وأضاف: “قرر رابين التحرك لأنه أدرك، بذكاء كبير وقبل كثيرين غيره بوقت طويل، أن المجتمع الإسرائيلي لا يمكنه الاستمرار في الوجود على المدى الطويل في حالة من الصراع المستعصي، لقد أدرك أن العيش في مناخ من العنف والاحتلال والإرهاب والقلق وانعدام الأمل يتطلب أكثر مما تستطيع إسرائيل تحمله، وهذا صحيح أيضاً اليوم، بل وأكثر حدة… دعونا نتوقف لحظة لننظر إلى أولئك الذين قدر لهم أن يكونوا شركاء لنا، انتخب الفلسطينيون حماس لقيادتهم، حماس ترفض التفاوض معنا، بل ترفض حتى الاعتراف بنا، ماذا عسانا أن نفعل في مثل هذا الوضع؟ هل نستمر في خنقهم مراراً وتكراراً ونستمر في قتل مئات الفلسطينيين في غزة، معظمهم من المدنيين الأبرياء مثلنا؟ نقتلهم ونُقتل إلى الأبد؟ سيد أولمرت [رئيس الوزراء آنذاك]، تحدث إلى الفلسطينيين، من فوق رؤوس حماس، إلى معتدليهم الذين، مثلي ومثلك، يعارضون حماس وأفعالها، تحدث إلى الشعب الفلسطيني، وتحدث عن أحزانه وجراحه، واعترف بالمعاناة التي يتحملها. بالطبع، الفلسطينيون مسؤولون أيضاً عن هذا المأزق، بالطبع، لعبوا دوراً في إفشال عملية السلام، لكن انظر إليهم من زاوية أخرى، لا تنظر فقط إلى المتطرفين منهم، بل إلى الذين يشاركوننا المصالح نفسها، انظر إلى الأغلبية العظمى من هذا الشعب التعيس، الذي يرتبط مصيره بمصيرنا، شئنا أم أبينا” (5).

في الذكرى السبعين لقيام دولة إسرائيل، على أنقاض فلسطين، شبّه ديفيد غروسمان، في حديث أجرته معه مجلة “لو نوفيل أوبسرفاتور” الفرنسية، في 19 نيسان/أبريل 2018، قيام هذه الدولة بـ “المعجزة”، ورّد عن سؤال بخصوص تقييمه لبلاده بقوله: “لنبدأ بما نفخر به؛ لو سألت جدي، قبل سبعين عاماً، عما إذا كان يعتقد أنه من الممكن لليهود أن يكون لهم دولة يوماً ما، لظنك مجنوناً. اليوم، لنا مكان في العالم، واللغة العبرية تزدهر في لهجات متعددة؛ بعد الحرب العالمية الثانية ومحرقة الهولوكوست، تمكّنا من إنشاء هذا المكان والدفاع عنه” (6).

ديفيد غروسمان إزاء السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023

في 24 تموز/يوليو 2023، دعا ديفيد غروسمان إلى بذل الجهود “من أجل التوصل إلى اتفاقيات سلام مع جيراننا الأعداء، حتى لا نُعرّض أنفسنا لحرب جديدة”. وفي آب/أغسطس 2023، وفي ظل المظاهرات الاحتجاجية الحاشدة المناهضة لمشروع الإصلاح القضائي، حذر من الضعف الذي أصاب الإسرائيليين ومن الخوف الذي صار ينتابهم، وكتب: “لأول مرة منذ سنوات، بدأ الإسرائيليون يشعرون بمعنى الضعف، لأول مرة، ربما منذ حرب يوم الغفران [سنة 1973] نسمع رنيناً خفيفاً من الخوف الوجودي يتردد في رؤوسنا، الخوف الذي يشعر به من لا يستقر مصيرهم بالكامل في أيديهم، الخوف الذي يشعر به الضعفاء”، ووصف إسرائيل “أحد أجمل البلدان في العالم” بـ “جسد مريض”، مندداً بالأوضاع السياسية التي تهدد “ببيع التعهد الأكثر قيمة، وهو الوطن القومي للشعب اليهودي” (7).

تسبب هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 بصدمة غير مسبوقة لدفيد غروسمان، الذي نشر في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 مقالاً بعنوان: “نصب تذكاري لضحايا مذبحة 7 أكتوبر في إسرائيل”، تبنى فيه الرواية الإسرائيلية الرسمية لأحداث ذلك اليوم، وجاء فيه: “مرّ أربعون يوماً على ذلك السبت الذي لقي فيه مئات الرجال والنساء والرضع والأطفال وكبار السن حتفهم. في حمى الكراهية والشر، ذبح إرهابيو حماس عائلات في منازلها، الآباء والأمهات أمام أعين أطفالهم، والأطفال أمام آبائهم، اغتصبوا وقتلوا، طاردوا الراقصين الأبرياء في حفل راقص، وأطلقوا النار عليهم ببهجة صياد، أو كما لو كانوا أهدافًا في لعبة فيديو” (8).

في الأول من آذار/مارس 2024، نشر ديفيد غروسمان مقالاً في صحيفة “نيويورك تايمز”، بعنوان: “إسرائيل تسقط في هاوية”، حافظ فيه على تبنيه الرواية الإسرائيلية الرسمية عن أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لكنه عبّر فيه عن إحساسه بوجود “الآخر” الفلسطيني. ففي ذلك المقال، أشار غروسمان إلى أن إسرائيل، “بعد قرابة خمسة أشهر من المجزرة، تشعر بالخوف، والصدمة، والغضب، والحزن، والإذلال، والانتقام”، معتبراً أن اليأس العميق الذي شعر به معظم الإسرائيليين يعود إلى الوضع الذي يجدون أنفسهم فيه: “إنه وضع أمة مضطهدة بلا حماية، أمة، على الرغم من إنجازاتها الهائلة في مجالات عديدة، لا تزال في أعماقها أمة لاجئين، مُشبعة باحتمال الاقتلاع من جذورها، حتى بعد قرابة 76 عاماً من السيادة”، ولا تزال إسرائيل “هي الدولة الوحيدة في العالم التي يُطالب بزوالها علانيةً”.

وأضاف “من سنكون – بصفتنا إسرائيليين وفلسطينيين – عندما تنتهي هذه الحرب الطويلة والقاسية؟ لن تبقى ذكرى الفظائع التي يرتكبها كلٌّ منا في حق الآخر بيننا لسنوات طويلة فحسب، بل أيضاً، كما نعلم جميعاً، بمجرد أن تتاح لحماس الفرصة، ستُنفذ بسرعة الهدف المنصوص عليه بوضوح في ميثاقها الأصلي: ألا وهو الواجب الديني المتمثل في تدمير إسرائيل؛ كيف إذن يُمكننا توقيع معاهدة سلام مع عدو كهذا؟ ومع ذلك، ما الخيار المتاح لنا؟ سيُحاسب الفلسطينيون أنفسهم. وأنا كإسرائيلي، أتساءل أي نوع من الناس سنكون في نهاية الحرب، إلى أين سنُوجّه ذنبنا – إن كنا نملك الشجاعة الكافية للشعور به – لما ارتكبناه بحق الفلسطينيين الأبرياء؟ إلى آلاف الأطفال الذين قتلناهم، إلى العائلات التي دمّرناها؟…لعلّ الاعتراف باستحالة كسب هذه الحرب، وأننا، علاوة على ذلك، لا نستطيع الحفاظ على الاحتلال إلى أجل غير مسمى، سيُجبر الجانبين على قبول حل الدولتين، الذي، رغم عيوبه ومخاطره (وخصوصاً خطر سيطرة حماس على فلسطين عبر انتخابات ديمقراطية)، لا يزال الحل الوحيد الممكن. هذا هو الوقت المناسب أيضاً للدول القادرة على التأثير على الجانبين لاستغلاله، ليس هذا وقت السياسة الضيقة والدبلوماسية الساخرة، إنها لحظة نادرة حيث تمتلك موجة صدمة كتلك التي شهدناها في السابع من أكتوبر القدرة على إعادة تشكيل الواقع” (9).

في الذكرى الأولى للسابع من أكتوبر، أُجريت عدة مقابلات صحفية مع ديفيد غروسمان، فأبدى، في مقابلة مع صحيفة “ليبراسيون” الباريسية، نُشرت في 5 تشرين الأول 2024، دهشته من حقيقة أن كل رئيس أميركي يصل إلى البيت الأبيض يعلن “أن الولايات المتحدة تدعم حق إسرائيل في الوجود”، مقدّراً ان إسرائيل وحدها، من بين جميع دول العالم، “تعاني من هذا الوضع العبثي: فهي الدولة الوحيدة التي لا تزال “شرعيتها”، الضرورية لوجود مستقر، غير معترف بها من قِبل الآخرين، بعد ستة وسبعين عاماً من السيادة”، وملاحظاً “أن الشعارات التي تُردد الآن في المظاهرات الحاشدة، وفي حرم الجامعات حول العالم، وفي افتتاحيات الصحف – شعارات “الموت لإسرائيل!” أو “فلسطين من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن!” – تُظهر أن أعداء إسرائيل، من أعماق هذه الهاوية، لا يكتفون بانتقاد أفعالها – وهو انتقاد مُبرر أحياناً – بل ينكرون عليها الحق الذي يعترفون به لأي دولة أخرى: وهو وجود كامل، غير متنازع عليه، ودائم” (10).

من أين تنبع تناقضات أنصار “السلام” الصهيونيين؟

بعد سقوط أكثر من 60000 شهيد وشهيدة، جراء القتل أو التجويع، وتدمير مدن قطاع غزة ومخيماته، وتعطيل كل بناه التحتية ومرافقه الحيوية، شهد ديفيد غروسمان صحوة ضمير باعترافه بأن إسرائيل ترتكب في حربها على قطاع غزة إبادة جماعية، وذلك بعد أن كان قد تبنى الرواية الرسمية الإسرائيلية لهجوم السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2023، وما رافقها من مزاعم ثبت عدم صحتها، وأخرج ذلك الهجوم من سياقه التاريخي، أي من سياق مقاومة طويلة لمشروع استعمار استيطاني إحلالي، حتى وإن تخللته أعمال يمكن إدانتها والتشكيك في “قيمتها الأخلاقية” على حد تعبير إيلان بابه.

والواقع، أن مواقف ديفيد غروسمان، وغيره من أنصار “السلام” الصهيونيين، تنطوي على تناقضات تنبع من عدم اعترافهم بـ “الخطيئة الأصلية” للصهيونية، ذلك إن مأساة الشعب الفلسطيني لم تبدأ في سنة 1967، بل بدأت في سنة 1948.

يجمع المعبرون عن تيارات الصهيونية المختلفة على شرعية قيام دولة يهودية في فلسطين؛ وإذا كان أنصار التيار الغالب يربط هذه الشرعية بـ “الحق التاريخي”، أو بـ “الوعد الإلهي”، أو بـ “العمل على تطوير الأرض المقفرة والمتروكة”، فإن هناك تياراً أقلوياً، ينتمي إليه ديفيد غروسمان، يربط هذه الشرعية بالمحنة التي حلت باليهود جراء المحرقة النازية، معتبراً أن ليس للفعل الصهيوني سوى “تبرير موضوعي واحد” هو إنقاذ اليهود من المحرقة النازية؛ من الصحيح أن الصهيونية ارتبطت بإجحاف بحق سكان فلسطين العرب، إلا أن هذا الإجحاف كان “شرطاً ضرورياً” لم يكن في وسعها من دونه إقامة دولة لليهود الملاحقين.

ويميّز أنصار هذا التيار الأقلوي بين الأراضي التي أقيمت عليها الدولة في سنة 1948 وبين الأراضي التي احتلت في سنة 1967، بحيث يضفون الشرعية على “تهويد” يافا أو الرملة بينما يعارضون “تهويد” نابلس أو رام الله، ويقبلون مبدأ قيام دولة فلسطينية، منزوعة السلاح، على أراضي سنة 1967 ولكن مع رفض التخلي عن القدس المحتلة، كما يتفق أنصار هذا التيار مع أنصار التيار الغالب على رفض حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم ، وعلى اعتبار أن الصهيونية لا تتحمل مسؤولية ولادة مشكلة هؤلاء اللاجئين، ذلك إن الحكومات العربية هي، في نظرهم، التي أمرت هؤلاء السكان بمغادرة قراهم ومدنهم، وفتح الطريق أمام الجيوش العربية المتقدمة كي تتمكن من القضاء على دولة اليهود الوليدة، وهي التي رفضت فيما بعد حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، كي تستمر في استغلالها سياسياً، ناهيك عن أن ما جرى في حقيقة الأمر هو عملية “تبادل سكاني” بين أعداد متماثلة من العرب واليهود؛ فالعرب هربوا خوفاً من الحرب، بينما طُرد اليهود من الدول العربية في أعقاب تلك الحرب!

  • – باحث ومؤرخ في مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت

شاهد أيضاً

خطة للجيش الإسرائيلي لاحتلال قطاع غزة بالكامل

شفا – من المتوقع أن يصادق “الكابينت” الإسرائيلي الخميس على خطة عسكرية شاملة تقضي باجتياح …