1:26 صباحًا / 4 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

محمد علوش ، الشعر بوصفه ذاكرة ووجوداً ، قراءة في مشروعه الشعري ، بقلم : أريج إبراهيم

محمد علوش ، الشعر بوصفه ذاكرة ووجوداً ، قراءة في مشروعه الشعري ، بقلم : أريج إبراهيم

محمد علوش ، الشعر بوصفه ذاكرة ووجوداً ، قراءة في مشروعه الشعري ، بقلم : أريج إبراهيم

يطلّ الشاعر الفلسطيني محمد علوش على المشهد الشعري العربي كصوتٍ متجذر في الأرض ووجدان الناس، لكنه في الوقت ذاته مشرع الأفق على أسئلة الوجود الإنساني ومكابداته، فمنذ مجموعته الأولى “سترون في الطريق خطاي” وحتى أحدث إصداراته “مسافر إليك”، تشكّلت ملامح مشروع شعريّ متكامل، لا يمكن قراءته إلا ضمن سياق الشعر الفلسطيني المقاوم، ولكنه في الوقت ذاته يملك فرادته الخاصة التي تمنحه مكانة متميزة بين أقرانه.


في نصوصه تتجاور فلسطين الذاكرة وفلسطين الأمل، ويتداخل الجرح الشخصي بالجرح الجمعي حتى يصعب الفصل بينهما.


يكتب علوش بوعي أن الشعر ليس فقط صرخة في وجه القهر، بل هو أيضاً بناء للمعنى، وحفظ للذاكرة، ومراودة للأمل في زمن يحاصر الروح.


إنّه شاعر يوازن بين حرارة الالتزام الوطني وشفافية البوح الإنساني، فلا يسقط في المباشرة السياسية التي تفقد القصيدة طاقتها الفنية، ولا في الانكفاء الذاتي الذي يعزلها عن هموم شعبه.


في مجموعته الأولى “سترون في الطريق خطاي” تتجلى البدايات الممهورة بالبحث عن الذات الجماعية، حيث تتنفس القصائد هواء المقاومة والانتفاض، وتتشكل الصور الشعرية من معجم الأرض والشهداء والحنين.


ومع صدور “خطى الجبل” بدا أنّ الشاعر يذهب أبعد في ترسيخ رمزية المكان الفلسطيني؛ فالجبل هنا لم يعد مجرد جغرافيا بل صار رمزاً للثبات والعزة، يحتمي به الإنسان الفلسطيني كلما اشتدّت عليه ريح الاحتلال. الصور أكثر عمقاً، والإيقاع أهدأ وأشدّ انسياباً، لكنّه لا يفقد نبرة التحدي التي تطبع التجربة من بدايتها.


وإذا كانت البدايات مشدودة إلى الجرح المباشر، فإنّ مجموعة “أتطلع للآتي” تعكس اتساع أفق التجربة باتجاه الأسئلة الكبرى للإنسان، ففي هذه المجموعة يسود صوت التأمل والاستشراف، حيث يبحث الشاعر عن إمكانات العدل والحرية في عالم يزداد جحيماً، وتتراجع المباشرة لصالح البعد الرمزي، وتزداد القصيدة كثافة وعمقاً، وكأنّ الشاعر قد أدرك أنّ صوته سيكون أكثر حضوراً إذا ما صاغ الجرح في هيئة رؤيا.


ثم تأتي “هتافات حنجرة حالمة” لتعيد للقصيدة حرارتها الهتافية، لكن ليس بنفس الحدة التي عرفناها في البدايات، وهنا يختبر علوش إمكان المزج بين الصوت الجماعي الثوري والبوح العاطفي الحميم، وفي هذه المجموعة تتلاقى صورة الشهيد مع صورة المحبّ، ويتقاطع الحلم الجماعي مع الفقد الشخصي، فيغدو النص أكثر تركيباً وثراءً.


أما في “مسافر إليك” فإنّ النبرة العاطفية تتصدّر المشهد بوضوح، حيث تتحوّل الرحلة الداخلية للمحبّ إلى رحلة في قلب الوطن، وإلى بحث عن المعنى وسط الخراب، فالنصوص هنا شفافة، لغتها هادئة لكنها مشبعة بالإيحاء، وفيها يظهر علوش شاعراً قادراً على تحويل العاطفي والوجداني إلى رمز كوني.


ما يلفت في المشروع الشعري لمحمد علوش أنّه نجح في بناء لغة وسطى، ليست نخبوية مغلقة على القارئ، ولا تقريرية تُفقد الشعر ألقه، لغته ميسورة لكنها غنية بالتلميح والرمز، ويعتمد الصورة الممتدة التي تنسج معانيها من تفاصيل المكان الفلسطيني: الزيتون، الحجارة، الجبل، المنافي، الشهداء، الأسرى، وهذه المفردات لا تأتي كزينة لغوية بل تحمل ثقل الذاكرة الفلسطينية وتعيد إنتاجها في قالب جمالي جديد.


الإيقاع عند علوش متنوع؛ فهو يكتب قصيدة التفعيلة التي تمنحه مساحة للتدفق الموسيقي، لكنه يميل أحياناً إلى النثرية المكثفة، لا سيما في المجموعات الأخيرة، حيث تغدو الموسيقى داخلية أكثر منها خارجية، وفي كل الأحوال، فإنّ وعيه الإيقاعي حاضر، فهو يدرك أنّ الشعر الفلسطيني المقاوم قد يفقد الكثير إذا انقطع عن موسيقى الروح التي تمنحه القدرة على الوصول إلى القارئ العادي والنخبوي في آن واحد.


من الناحية الدرامية، تحضر في بعض نصوصه تقنية الحوار الداخلي وتعدد الأصوات، وهو ما يمنح القصيدة بعداً حركياً، وهذه السمة تبدو جلية في مجموعتي “هتافات حنجرة حالمة” و”مسافر إليك”، حيث يسمع القارئ أكثر من صوت في النص الواحد: صوت الأم، الشهيد، الأسير، الوطن، وحتى صوت الشاعر وهو يخاطب ذاته، وهذا التعدد يثري التجربة ويجنبها الرتابة.


القيمة الأبرز في تجربة علوش أنّها لا تكتفي بتمثيل المأساة الفلسطينية بل تسعى إلى تجاوزها نحو أفق إنساني أرحب، فالقارئ العربي أو الأجنبي يمكنه أن يجد في نصوصه صدى لأسئلته الوجودية الخاصة: معنى الحياة تحت القهر، معنى الأمل في زمن الانكسارات، وكيف يمكن للإنسان أن يحافظ على إنسانيته وسط عالم يتفتت، وهذه النزعة الكونية لا تلغي خصوصية التجربة الفلسطينية بل تمنحها بعداً مضاعفاً.


إنّ شعر محمد علوش، في جوهره، ذاكرة مكتوبة تحفظ تفاصيل المكان والإنسان الفلسطينيين، لكنه أيضاً فعل مقاومة جمالي، يعيد تشكيل العالم على نحو لا يستطيع الاحتلال النيل منه، فهو يكتب ليبقي الجبل شاخصاً في الروح، وليجعل من الزيتون رمزاً يتجدد في كل نص، وليحمل القارئ إلى الأفق الذي يراه “آتٍ” مهما طال الليل. وبهذا المعنى يمكن القول إنّ تجربة علوش تشكّل أحد النماذج الأصيلة للشعر الفلسطيني المعاصر، الذي يوازن بين الالتزام الوطني والابتكار الجمالي.


وإذا كان الشعر الفلسطيني قد عرف أصواتاً كبرى حفرت أسماءها في ذاكرة الأجيال، فإنّ صوت محمد علوش يضيف إلى هذا التراث بعداً مختلفاً، يقوم على الجمع بين البساطة والعمق، بين انفعال اللحظة التاريخية واستشراف المستقبل، فهو شاعر لا يتكئ على الخطابة ولا يركن إلى الغموض، بل يسعى إلى كتابة نصّ مفتوح على كل القراءات، يلتقط لحظة الحاضر الفلسطيني بكلّ تناقضاتها، ويحولها إلى طاقة أمل وأفق حياة.

شاهد أيضاً

الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان يصف الحرب في غزة بـ"الإبادة الجماعية"

الكاتب الإسرائيلي ديفيد غروسمان يصف الحرب في غزة بـ”الإبادة الجماعية”

شفا – قال الكاتب الإسرائيلي المشهور ديفيد غروسمان، إن ما يحدث في غزة إنما هو …