4:10 مساءً / 1 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

العصبيات في العالم العربي والإسلامي ، بين إرث الاستعمار ومعارك النفوذ الحديث ، بقلم : علاء عاشور

العصبيات في العالم العربي والإسلامي : بين إرث الاستعمار ومعارك النفوذ الحديث ، بقلم : علاء عاشور

في زوايا التاريخ العربي والإسلامي، تتكاثر الأسئلة الحارقة عن الجذور الحقيقية للتعصب الطائفي والقبلي والقومي والديني، الذي استشرى في الجسد العربي حتى أضحى أداة تفرقة وشرذمة، تقف سدًا منيعًا أمام أي مشروع وحدوي أو نهضوي جامع. فهل هذه الانقسامات وليدة لحظة استعمارية عابرة، أم أنها نتاج تفاعل معقد بين وقائع الاستعمار القديم، والخرائط السياسية التي رسمتها سايكس وبيكو، مع مشاريع دينية وقومية لاحقة، كالثورة الإسلامية في إيران، وقيام إسرائيل، وصعود بعض الأقليات على أكتاف دعم خارجي مباشر؟

بين الاستعمار والتاريخ المحلي

لا يمكن إنكار أن الاستعمار الأوروبي ـ البريطاني والفرنسي تحديدًا ـ لعب دورًا محوريًا في تفتيت وحدة العالم الإسلامي والعربي. لم يكتفِ الاستعمار برسم حدود مصطنعة على الرمال، بل زرع في عمق التركيبة الاجتماعية قنابل طائفية مؤقتة، مستفيدًا من التمايزات القبلية والدينية والمذهبية التي كانت موجودة بشكل طبيعي، لكنها لم تكن قاتلة أو فاعلة سياسيًا كما أصبحت بعد التدخل الاستعماري.

لقد عمد الاستعمار إلى تسليح فئات ضد أخرى، ومنح امتيازات طائفية وقومية لبعض الجماعات لخلق توازنات تخدم وجوده. ومن الأمثلة البارزة على ذلك دعم فرنسا للموارنة في لبنان، أو دعم بريطانيا ليهود فلسطين تمهيدًا لإنشاء كيان غريب عن النسيج العربي – دولة إسرائيل – التي تأسست منذ لحظتها الأولى على فكرة “الدولة الدينية” لليهود.

الثورة الإيرانية وتصدير الانقسام

ثم جاءت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وهي لحظة تاريخية مفصلية أعادت تشكيل الاصطفافات الطائفية في المنطقة. رفعت إيران شعار “تصدير الثورة”، لا باعتبارها ثورة شعبية ضد الشاه فحسب، بل كمنظومة فكرية سياسية قائمة على ولاية الفقيه وتوظيف التشيع كهوية سياسية.

هذا الطرح سرعان ما فُسِّر من قِبل دول الخليج والعالم العربي السني كمشروع هيمنة طائفية، مما أشعل صراعات إقليمية، كان من أبرزها الحرب العراقية الإيرانية، التي دامت ثماني سنوات وشكلت نقطة تحول حاسمة في تشكيل الخنادق الطائفية في المنطقة.

إسرائيل والطائفية كأداة للهيمنة

أما دولة إسرائيل، فهي الكيان الذي وُلد على أرضية الصراع الديني والقومي، والذي وجد في تفتيت العالم العربي مصلحة استراتيجية كبرى. لم تكن استراتيجياتها تقوم فقط على الحروب المباشرة، بل على تعميق الانقسامات داخل الكيانات العربية نفسها، وقد استغلت إسرائيل بعض الطوائف والمكونات المجتمعية لتقويض الدول من الداخل، أو لشرعنة تطبيع سياسي مبكر قائم على مبررات “الأقليات المظلومة”.

ولم يكن هذا ليحدث لولا تواطؤ قوى غربية، وجدت في “حماية الأقليات” مدخلًا إنسانيًا، لكنه في جوهره يخدم مصالح اقتصادية وجيوسياسية، خاصة في المناطق الغنية بالنفط أو ذات الثقل الديمغرافي والإسلامي.

الدولة القطرية ونفاق الاستقلال

الأنظمة العربية – بعد الاستقلال – لم تكن سوى استكمال للكيانات التي صنعها الاستعمار، بل إن كثيرًا منها تمادى في القُطرية حفاظًا على موارده الخاصة. فدول الخليج، مثلًا، استأثرت بعوائد النفط والغاز، ورفضت أي مشروع وحدوي اقتصادي أو سياسي مع دول فقيرة كاليمن أو السودان أو موريتانيا أو حتى فلسطين، بحجة السيادة والخصوصية.

هكذا أضحت الدولة القُطرية ليس فقط أداة للحفاظ على السلطة، بل على الفقر والفصل الكامل بين “عرب الأغنياء” و”عرب الفقراء”.

هل الوحدة ممكنة بالقوة؟

هنا يبرز السؤال الأخلاقي والسياسي الشائك: هل يمكن ولادة دولة عربية أو إسلامية موحدة، بالقوة إن لزم الأمر؟ وهل تمر النهضة الحقيقية عبر “كسر” الدولة القُطرية وفرض نموذج اتحادي، كما فعلت الولايات المتحدة في بداياتها أو الاتحاد السوفييتي سابقًا؟

يذهب بعض المفكرين إلى القول إن القوة مطلوبة أحيانًا لصنع التاريخ، لا سيما عندما تكون إرادات الشعوب مكبلة أو ممزقة بفعل الإعلام والنظام التربوي القُطري. لكن خطر هذا الطرح يكمن في تكرار نماذج الاستبداد تحت عباءة “الوحدة”، كما جربنا في بعض التجارب الوحدوية الفاشلة.

صدام حسين والكويت: الجدل المفتوح

في هذا السياق، يطرح البعض السؤال المحرم: هل كان صدام حسين محقًا في غزو الكويت؟ لا بد أن نقول بوضوح إن غزو دولة لدولة أخرى هو خرق للقانون الدولي ومبدأ السيادة. لكن، إن نظرنا إلى الخلفيات الاقتصادية والسياسية، نجد أن صدام – الذي خرج منهكًا من حرب طويلة مع إيران – كان يرى في الكويت بابًا للخلاص الاقتصادي، خاصة في ظل ما اعتبره مؤامرة نفطية تهدف إلى خنق العراق.

كما أن صدام كان يحلم بمشروع قومي عربي يتجاوز حدود سايكس-بيكو، ووجد أن ميزان القوى العالمي مختل لصالح أمريكا وإسرائيل، بينما الجامعة العربية بقيت مجرد واجهة بلاغية لا تملك من أمرها شيئًا.

ورغم أن ما فعله صدام لا يمكن تبريره قانونيًا، إلا أن تفسيره سياسيًا لا ينفصل عن شعوره – وشعور كثير من القادة العرب آنذاك – بأن المشروع الوحدوي مستحيل دون كسر القيود المفروضة بالقوة الغربية والهيمنة الاقتصادية الخليجية.

نحو أي أفق؟

أمام هذا الواقع، لا بد من العودة إلى الأسئلة الكبرى:
هل من سبيل إلى بناء مشروع عربي أو إسلامي موحد؟
هل لا تزال لدينا نخب فكرية قادرة على الحلم بوحدة تتجاوز الطائفة والقبيلة والدولة القُطرية؟
أم أننا دخلنا في نفق التشظي النهائي حيث تُدار كل دولة عربية كـ”شركة نفط” أو “محمية أمنية” لصالح قوى خارجية؟

الجواب ليس بسيطًا، لكنه يبدأ من الاعتراف بجذر المشكلة: نحن لم نتحرر بعد. نحن فقط غيرنا السادة.

نموذج الهند وباكستان: دروس في الصراع الديني والطائفي

قد يكون الصراع بين الهند وباكستان أحد أكثر الأمثلة وضوحًا على تأثير الدين والطائفة في تشكيل الدول الحديثة وتحديد علاقاتها الداخلية والخارجية. فبعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، قسمت الهند إلى دولتين: الهند ذات الأغلبية الهندوسية، وباكستان ذات الأغلبية المسلمة. هذا التقسيم لم يكن مجرد تقسيم جغرافي، بل كان تقسيمًا دينيًا عميقًا خلق حالة من العداء المستمر بين البلدين، وقد أنتج صراعات دموية لا حصر لها، وأزمة كشمير المستمرة حتى يومنا هذا.

التجربة الهندية ـ رغم نجاحها النسبي في الحفاظ على الوحدة بين عدد كبير من الأديان والطوائف ـ توضح أن العالم لا يمكن أن يظل عالقًا في تصورات متشددة عن الدين والتقاليد في سياسات الدول. فالهند، رغم تنوعها الديني الهائل، تمكنت من أن تؤسس ديمقراطية علمانية تحترم جميع الأديان وتضع الدين بعيدًا عن آليات صنع القرار السياسي، مما أتاح للدولة أن تبني هوية وطنية جامعية قائمة على المواطنة وليس على الانتماءات الدينية. لكن في المقابل، لا تزال باكستان تعاني من استمرار استخدام الدين كأداة لتحديد الهوية السياسية، مما يساهم في استمرار حالة عدم الاستقرار الداخلي والصراعات مع الهند.

إنه من الواضح أن الاستمرار في استخدام الدين كركيزة أساسية في السياسة قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الداخلية، الأمر الذي يضعف اللحمة الوطنية ويجعل من الصعب بناء دولة ديمقراطية حديثة ومتوازنة. وعليه، فإن النموذج الذي يمكن أن نتعلم منه هو نموذج الدولة المدنية، التي تضمن حريات الأفراد، وتحترم الدين دون أن تدمجه في مؤسسات الحكم أو توظفه لأغراض سياسية.

الدولة المدنية والعلمانية: ضرورة للوحدة

في هذا السياق، يبدو أن الحاجة إلى نموذج دولة مدنية علمانية، لا تقتصر فقط على ضمان الحقوق والحريات الفردية، بل على تأسيس بنية سياسية تحترم الدين كمصدر من مصادر التشريع، وتُبعده عن السياسة اليومية ومكاسب السلطة. هذه الدولة يجب أن تكون قائمة على أسس الفطرة الإنسانية والقانون الطبيعي، وهو ما أكده العديد من المفكرين والفلاسفة مثل جون لوك، الذي يؤمن بأن الطبيعة البشرية، رغم تحدياتها، مائلة في جوهرها إلى الخير والتعاون.

إن مفهوم “الدولة المدنية” هو في جوهره تأكيد على أهمية فصل الدين عن الدولة بشكل يسمح بتعايش كافة الطوائف والأديان تحت مظلة وطنية واحدة، دون أن تكون هناك أية سيطرة لطائفة على أخرى. إن هذه الدولة يجب أن تتبنى مفهوم المواطنة كمرجعية أساسية لجميع المواطنين، بغض النظر عن دينهم أو طائفتهم، مع ضمان حماية القيم الدينية لكل فرد. هذه الفكرة تمثل حلم كل مسلم وعربي عاقل يسعى إلى بناء دولة تكون أساسًا للحريات والعدالة، لا لطائفة أو دين أو طائفة سياسية بعينها.

إبعاد الدين عن السياسة: الحاجة إلى الفصل بينهما

إن محاولات بعض جماعات الإسلام السياسي التي تتبنى مفاهيم أيديولوجية دينية، وكذلك محاولات التيارات الطائفية الأخرى كالمسيحيين والدروز، للاحتكار الديني لمصالح ضيقة، قد تكون أكبر تهديد للمشروع الوطني في العديد من البلدان العربية والإسلامية. هذه الجماعات لا تدرك أن الدين في جوهره ليس أداة سياسية للهيمنة، بل هو أداة تربية وإصلاح روحاني. محاولة توظيف الدين لتحقيق مصالح ضيقة يؤدي إلى تشويه جوهره، ويعزز الانقسامات الدينية والطائفية التي تهدد وحدة الأمة.

إن الوطن والكرامة لهذه الأمة أكبر من الجميع. فالوحدة الوطنية هي الأساس الذي يجب أن يُبنى عليه أي مشروع سياسي حقيقي. عندما يتم احتكار الدين من قبل جماعة أو طائفة معينة، فإن ذلك يُفقد المجتمع قدرته على التفاعل مع قضايا العصر ومتطلباته، ويعزل المجتمع عن الأسس الإنسانية التي تضمن الحياة المشتركة السليمة بين مختلف فئات الشعب. ومن هنا تبرز الحاجة الماسة إلى دولة مدنية علمانية، تكون فيها المصلحة العامة ورفاهية المواطن هي الأولوية.

الأحلام الوطنية والوحدة الإسلامية والعربية

وعندما نتحدث عن حلم كل مسلم وعربي في رؤية دولة واحدة تضم العالم العربي والإسلامي تحت لواء دولة مدنية، فإننا نتحدث عن ضرورة تحقيق وحدة تتجاوز كل الانقسامات الطائفية والدينية. إن نموذج الدولة المدنية يمكن أن يكون هو الطريق الأمثل لتحقيق هذه الوحدة، لأنه يُحترم فيه الدين كقيمة، لكن يُفصل عن السياسة. وحدة الشعوب العربية والإسلامية تتطلب قضاء على العوامل التي تزرع الانقسامات بين الشعوب، مثل الطائفية والعنصرية.

في عالم يشهد تحديات كبيرة، من إرهاب وعنف، ومن تدخلات خارجية تسعى لتفتيت هذه الأمة لمصالحها الخاصة، من الضروري أن يكون الحل في إقامة دولة مدنية علمانية تقوم على أسس ديمقراطية، حيث يتم احترام الدين ولكن دون استغلاله لخدمة الأجندات السياسية الضيقة. هذه الدولة يمكن أن تكون نموذجًا يحتذى به لبقية دول العالم.

التفكير في الحلول: هل يمكن بناء دولة مدنية واحدة في العالم العربي والإسلامي؟

إن بناء هذه الدولة يتطلب إرادة سياسية قوية، وكذلك تغييرات جذرية في الوعي الاجتماعي والثقافي. يجب أن ندرك أن جميع الشعوب العربية والإسلامية تتشارك في أمل واحد: أن يعيشوا في دولة تضمن لهم حقوقهم كأفراد ومواطنين متساويين، بدون تفرقة بين دين وآخر أو طائفة وأخرى. إن رياح التغيير قد بدأت بالفعل تهب على الأمة العربية، لكن نجاح هذا المشروع يتطلب أن يتخلى كل فرد وجماعة عن الفكرة الضيقة للدين والطائفة، ويتبنى فكرة المواطنة الكاملة التي تتماشى مع الفطرة الإنسانية وحقوق الإنسان.

إن الحل ليس في العودة إلى تقسيمات دينية أو طائفية، بل في استحضار النموذج المدني الذي يعزز من الروابط الإنسانية بين الناس. هذا النموذج هو الذي يضمن أن تكون الأمة العربية والإسلامية في المقدمة، مع احترام هويتها الدينية والثقافية، دون أن تكون هذه الهوية هي ما يقسمها ويفككها.

شاهد أيضاً

الرئيس محمود عباس يستقبل وزير الخارجية الألماني

الرئيس محمود عباس يستقبل وزير الخارجية الألماني

شفا – استقبل سيادة رئيس دولة فلسطين محمود عباس “ابو مازن” ، بمقر الرئاسة في …