
العربدة الأمريكية المتواصلة وسقوط الأقنعة ، ترامب نموذجاً وسياقاً إمبريالياً ، بقلم : محمد علوش
في مسالك السياسة الدولية، لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تُقدّم نفسها كراعٍ للسلام، وناشرٍ للديمقراطية، وحامٍ لحقوق الإنسان، غير أن ما يختبئ خلف هذا القناع الزائف هو مشروع إمبريالي متكامل، يقوم على الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والثقافية، ويُدار بعقلية استعلائية لا تعترف بالشعوب إلّا بوصفها أدوات، ولا ترى في العالم سوى رقعة مصالح يجب السيطرة عليها، ولو على حساب العدالة والكرامة الإنسانية.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نصّبت واشنطن نفسها شرطيّاً للعالم، وأحاطت هيمنتها بشبكة من القواعد العسكرية، والاتفاقيات الاستراتيجية، والأذرع الاستخبارية، والمؤسسات المالية العابرة للحدود، وما إن اهتزّ نظام الثنائية القطبية بانهيار الاتحاد السوفييتي، حتى تَفرعن المشروع الأمريكي واندفع في حروبه الكونية بلا رقيب، من أفغانستان إلى العراق، ومن ليبيا إلى سوريا، ومن دعم الانقلابات إلى تغذية النزاعات الطائفية والعرقية.
وفي هذا السياق العام، لا يشكّل دونالد ترامب استثناءً، بل يمثّل ذروة التجلي الفجّ لهذا المشروع، فلقد سقط في عهده آخر ما تبقى من أقنعة، وظهرت على السطح – دون مواربة – الطبيعة الاستعمارية الجديدة للسياسة الأمريكية، ولم يعد هناك مجالٌ للحديث عن ازدواجية المعايير، فقد أصبحت المعايير نفسها وقحة، لا تعترف إلا بالقوة، ولا تنحاز إلا لأصحاب النفوذ، ولا ترى في القانون الدولي سوى أداة تُستخدم عند الحاجة وتُداس عند اللزوم.
لقد جسّد ترامب – لا بوصفه شخصاً بل ظاهرة – الانقلاب التام على مفردات الخطاب الدولي المهذّب، ومارس الكذب السياسي كعادة يومية، وأدار العلاقات الدولية بمنطق الصفقات والابتزاز، وأعلن بوضوح: من يدفع أكثر يربح أكثر، وتحوّلت القيم إلى مزاد علني، تُباع فيه المواقف وتُشترى فيه التحالفات، وتُعاقب فيه الدول التي لا تخضع للإملاءات الأمريكية.
القضية الفلسطينية: ميدان اشتباك مركزي – في قلب هذا المشهد، شكّلت فلسطين ساحة المواجهة الأبرز مع المشروع الأمريكي، لم تكن فلسطين مجرّد ضحية من ضحاياه، بل كانت وما تزال كاشفةً لجوهره الاستعماري، ففي عهده، اتخذ ترامب خطوات صادمة، لم تكن سوى تتمّة للنهج الأمريكي المتراكم في دعم إسرائيل، لكنها في عهد الرجل تحوّلت إلى عدوان سافر على حقوق الشعب الفلسطيني.
إعلان القدس عاصمة للاحتلال، نقل السفارة الأمريكية، قطع الدعم عن وكالة “الأونروا”، الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، ومحاولة تصفية حق العودة، كلها حلقات في مسلسل التواطؤ الأمريكي الطويل، لكنها بلغت ذروتها فيما سُمّي بـ “صفقة القرن”، التي لم تكن سوى خطة تصفية شاملة للحقوق الفلسطينية، وفرض الاستسلام تحت غطاء المال والمشاريع الكاذبة.
لكن، ورغم كل هذا العدوان، لم تمت فلسطين، بل ظلّت تقاوم، وتُفشل الخطط، وتفضح الزيف، فلقد أسقط الشعب الفلسطيني – بكل مكوناته – أوهام الترويض الأمريكي، وأثبت أن إرادة التحرر أقوى من مليارات الدولارات، وأن الحقوق لا تُشترى ولا تُباع، بل تُنتزع بالصمود والمقاومة.
النضال ضد الإمبريالية الأمريكية: مسؤولية أممية – وإن العربدة الأمريكية، التي تجلّت مع ترامب لكنها لم تنتهِ برحيله، ليست شأناً أمريكياً داخلياً، إنها تهديد مباشر للسلم العالمي، ولحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وهي تتخذ أشكالاً متعددة: عسكرية، اقتصادية، إعلامية، ثقافية، وتكنولوجية، ولذا فإن مواجهتها تتطلّب بناء جبهة نضالية أممية جديدة، تعيد الاعتبار للخطاب التحرري، وتُحيي روح التضامن بين شعوب الجنوب العالمي، وبين كل من يؤمن بالعدالة والمساواة.
ولم يعد كافياً إدانة السياسة الأمريكية، بل المطلوب اليوم هو تعزيز أدوات الاشتباك معها، عبر: فضح خطابها الزائف في المحافل الدولية، ودعم المقاومة الشعبية في فلسطين وفي كل مكان، وبناء إعلام حرّ بديل يُجابه الهيمنة الإعلامية الغربية، وتطوير أدوات اقتصادية بديلة تفكّ الارتباط مع منظومات الهيمنة مثل صندوق النقد والبنك الدولي، وتحصين الوعي الشعبي من الغزو الثقافي الممنهج الذي تمارسه منصّات “القوة الناعمة” الأمريكية.
في مواجهة مشروع الهيمنة: فلسطين بوصلتنا – ويبقى الأهم من كل ذلك، أن فلسطين تظل البوصلة الحقيقية في هذه المواجهة، فكلّ من يتواطأ على تصفية القضية الفلسطينية، هو بالضرورة شريك في المشروع الأمريكي الإمبريالي، وإنْ لبِسَ عباءة العرب أو تزيّا بأزياء الدين.
ولذلك، فإن النضال من أجل فلسطين هو نضال ضد الظلم الكوني، وضد نظام عالمي جائر يقوم على الاستغلال والاستعباد، وإن الدفاع عن فلسطين لا يُختزل في الجغرافيا، بل هو دفاع عن المعنى الإنساني للحرية، وعن قدرة الشعوب على مواجهة الجبروت بقوة الوعي والإرادة.
وإنّنا، حين نُدين ترامب، فإننا لا نتحدث عن رجل، بل عن مرحلة انكشفت فيها الحقيقة، وحين نواجه أمريكا، فإننا لا نواجه شعباً، بل نظاماً عالمياً يقوم على الهيمنة، وستظل هذه المواجهة، رغم اختلال موازين القوى، عنوان شرف لشعوبٍ رفضت الركوع، وآثرت أن تمشي في درب الكرامة، ولو على الأشواك.
- – محمد علوش – عضو المكتب السياسي لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني