3:16 مساءً / 14 يوليو، 2025
آخر الاخبار

بين سراب الحلول ومعادلات الإقليم: أين تتجه القضية الفلسطينية؟ بقلم : سالي أبو عياش

بين سراب الحلول ومعادلات الإقليم: أين تتجه القضية الفلسطينية؟ بقلم : سالي أبو عياش

في الوقت الذي تنشغل فيه العواصم بإعادة رسم خرائط النفوذ والتحالفات، وبينما تُبرم الصفقات باسم “الاستقرار الإقليمي”، تُزاح القضية الفلسطينية إلى الهامش، لا باعتبارها عقدة مركزية، بل كعبء مرهق يجب التخلص منه.

فإسرائيل اليوم ليست فقط في موقع القوة، بل في موقع القبول، وتستثمر لحظتها التاريخية لفرض حلها الخاص القائم على الإبادة والضم والتفكيك والتطبيع، دون حاجة لإعلان رسمي أو مفاوضات.


من النكبة إلى النكسة، إلى أوسلو، إلى عدوان غزة الأخير، تتكرّر فصول القصة، لكن النهاية هذه المرّة تُكتب بأدوات جديدة: تحالفات عربية معها لا ضدها، وغضّ طرف دولي، وانهيار فلسطيني داخلي.


تساؤلات جمة لم تعد رفاهية فكرية، بل باتت ملحّة وضرورية أمام مشهد إقليمي ودولي يتسارع نحو إغلاق الملف الفلسطيني، لا عبر حلّه، بل عبر شطبه.


إلى أين نحن ذاهبون؟ أين هي الدولة الفلسطينية التي نُظِّر لها طويلاً ما هي مقوماتها وحدودها؟ وهل ما يزال لها وجودٌ فعلي أو حتى تخيلي في ظل الواقع الراهن؟


إبادة غزة كإعلان موت جماعي للوجود الفلسطيني:


منذ السابع من أكتوبر2023؛ يتعرض قطاع غزة لحرب إبادة ممنهجة، دمّرت فيها إسرائيل كل مقوّمات الحياة من بشرٍ وحجرٍ وماء. تجاوز عدد الشهداء عتبة 58 ألفا حتى منتصف 2025، وفقاً بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فيما ملايين الفلسطينيين محاصرون بين الموت والقهر والتجويع والاقتلاع القسري.


لم تكن هذه الحرب فعلاً طارئا، بل ذروة لخطة متدرجة لتفريغ غزة من سكانها فالتدمير الكامل للمستشفيات، البلديات، الجامعات، شبكات الكهرباء والماء، والضغط الإنساني الهائل — كلّها أدوات متعمّدة لإنتاج نزوح جماعي داخلي تمهيداً لتهجير خارجي.


طُرد مئات آلاف المدنيين من مساكنهم في شتى مناطق غزة من شمالها لجنوبها والعكس، بينما تُمارس آلة القتل والدمار أمام كاميرات العالم دون أي رادع. وكأن إسرائيل تعيد صياغة غزة، لا كمنطقة مقاومة فقط، بل كمنطقة يجب محوها تماماً من الخريطة الجغرافية والديموغرافية، في تجلٍ واضح لسياسة الأرض المحروقة.


فالرسالة من غزة اليوم أصبحت واضحة: لا دولة، لا كيان، لا حياة فلسطينية متصلة، بل مشروع اقتلاع دائم، تسنده نيران الحرب، وصمت العالم، وصداقة الأنظمة.


الضفة الغربية ضمٌ زاحف بلا إعلان رسمي:


في الضفة الغربية، لا تقل الكارثة عن غزة، وإن اختلفت أدواتها فمشروع الضم الإسرائيلي يسير بخطى ثابتة، ليس من خلال إعلان قانوني، بل عبر فرض وقائع متراكمة على الأرض.


تصاعد العنف الاستيطاني بشكل غير مسبوق فمسافر يطا، الاغوار الشمالية، سوسيا، كفر الديك، خلة الضبع، وبيت دجن، سنجل، المزرعة الشرقية…أسماء لقرى تُشنّ عليها حملات من قبل المستوطنين أدت إلى استشهاد عدد من الفلسطينيين أثناء التصدي لهذه الاقتحامات، إضافة إلى حرق البيوت، سرقة الأراضي، تجريف المزارع، إرغام السكان على النزوح، وصولاً إلى الاعتداء على دور العبادة يتم ذلك تحت حماية رسمية من جيش الاحتلال.


ويأتي ذلك في إطار خطة إسرائيلية مدروسة، مثل تلك التي أعلنها الوزير سموتريتش لفرض السيادة الكاملة على الضفة تدريجياً، عبر تفكيك أي بنية فلسطينية مستقلة. فلم يعد المستوطنون مجرد أدوات عشوائية، بل باتوا ذراعاً تنفيذية رسمية ضمن خطة الحكم الذاتي الاستيطاني التي منحهم بموجبها نتنياهو صلاحيات إدارية وأمنية في مناطق مصنفة (ج).


وتقوم إسرائيل بمصادرة الأراضي بوسائل قانونية ملتوية أو عبر القوة المباشرة، وتُحاصر القرى الفلسطينية بشبكات من الطرق الالتفافية، وتُحوّل الفلسطينيين إلى سكان داخل جيوب مغلقة، بلا تواصل جغرافي أو سيادة.


والأخطر أن هذا التدمير لا يستهدف الأرض فقط، بل الهوية السياسية الفلسطينية ذاتها، عبر تفتيت المجتمع وتجريده من أي مقوّمات الاستقلال. فالضفة باتت ميداناً للتجريب الإسرائيلي فيما يُشبه تدبير احتلال ناعم، لكنه فعالٌ ومدمّرٌ في آنٍ معاً.

التطبيع شرعنه إقليمية للاحتلال:


في السنوات الأخيرة، تحوّلت إسرائيل من عدوّ تقليدي للعرب إلى شريك إقليمي في مشاريع كبرى: أمنية، اقتصادية، تكنولوجية وحتى ثقافية. فاتفاقيات “أبراهام” لم تكن مجرد تطبيع علاقات، بل كانت إعادة تعريف لدور إسرائيل في المنطقة.


فمن شراكات الطاقة، إلى خطوط التجارة الإقليمية، مروراً بتعاونات أمنية، حصلت تل أبيب على ما لم تحلم به: قبول عربي رسمي بوجودها وهيمنتها، دون أي مقابل للفلسطينيين بل إن الاعتراف بيهودية الدولة من بعض الدول المطبعة شكّل ضربة استراتيجية للحقوق الفلسطينية.


التحالف مع إسرائيل لم يعد يُبنى على فكرة السلام، بل على الاستقرار الإقليمي، بمعناه الأمني الذي يضع الاحتلال كـضامن للتهدئة، لا كمصدر للتوتر.


والنتيجة؟ تحول الاحتلال من أزمة دولية إلى جزء من منظومة إقليمية، وتحوّلت القضية الفلسطينية إلى ملف داخلي يجب ضبطه وتحييده، لا دعمه والدفاع عنه.


فالتطبيع أضفى شرعية على ما تقوم به إسرائيل في غزة والضفة، وسمح لها باستكمال مشاريعها دون ضغط عربي أو حتى إحراج دبلوماسي.


حل الدولتين من مشروع سياسي إلى ورقة دفن:


منذ التسعينات، رُوّج لحل الدولتين كخيار استراتيجي، وراهن عليه الفلسطينيون والمجتمع الدولي، باعتباره السبيل الوحيد لإنهاء الصراع. لكن اليوم، لم يعد هذا الحل موجودا، لا على الأرض، ولا في المفاوضات، ولا حتى في التصريحات الرسمية الإسرائيلية.


فالمفاوضات جُمدت، الأرض تقضم يومياً، والقيادة الإسرائيلية تُجاهر برفضها إقامة دولة فلسطينية. أما الولايات المتحدة — الراعي الأول لحل الدولتين — فقد باتت عاجزة أو غير راغبة في فرض أي معادلة سياسية.


ما تبقى من حل الدولتين هو خطابات فارغة وأوهام دبلوماسية. في الواقع، نحن أمام انتقال كامل من فكرة الدولة، إلى واقع اللادولة، حيث الفلسطيني يُعامل كمقيم في أراضٍ مفتتة، تحت حكم ذاتي إداري هش، وبدون سيادة أو أفق.
فبين غزة المحترقة، والضفة المخنوقة، والتطبيع المُسرّع، سقط حلّ الدولتين دون ضجيج، وبقي الفلسطيني معلقاً في فراغ سياسي، يُدار بالترقيع لا بالحل.


إلى أين؟ السيناريوهات المحتملة:


أمام هذا المشهد القاتم، تتكاثر الأسئلة: هل انتهت القضية؟ هل دخلنا فعلاً في مرحلة ما بعد فلسطين؟ هل نحن أمام تصفية ناعمة، أم انفجار قادم؟ وما الخيارات المتاحة للفلسطينيين؟ لا أجوبة حاسمة، لكن ثلاثة مشاهد محتملة ترسم ملامح المستقبل:


السيناريو الأول: التصفية التدريجية:


فيه يستمر الواقع كما هو: توسع استيطاني، شلل فلسطيني داخلي، تطبيع عربي متزايد، وصمت دولي لتُنجز إسرائيل مشروعها على نار هادئة، دون الحاجة لحرب كبرى أو إعلان رسمي.


السيناريو الثاني: الانفجار المقاوم:


يعود فيه الشعب الفلسطيني، خصوصًا في الضفة، إلى الاشتباك الجماعي والمفتوح، سواء عبر انتفاضة جديدة، أو موجة عمليات مسلحة، ما قد يعيد ترتيب المشهد، لكنه سيواجه بردع إسرائيلي دموي، وتخلي إقليمي محتمل.
السيناريو الثالث: إعادة بناء المشروع الوطني:


وهو أضعف السيناريوهات حالياً، لكنه الأمل الأصدق. يتم فيه تجاوز الانقسام، وبناء قيادة فلسطينية جديدة، تُعيد تعريف القضية كقضية تحرر وطني لا كسلطة، وتستعيد الخطاب الموحد، وتفتح خيارات سياسية وشعبية أوسع.


في النهاية وبين جميع المتغيرات الداخلية والجيوسياسية يبدو أن القضية الفلسطينية تُدفع قسراً إلى مسار لا تريده وقد يكون بالفعل نحو “اللا دولة”. لكن السؤال الأخطر ليس فقط: إلى أين تتجه؟ بل: من سيوقف هذا المسار؟


ما زال في الأرض من يقاوم، وما زال في الناس من يرفض، وما زالت فلسطين، رغم الحصار والإبادة، حيّة في وجدان أحرار العالم. وإن بدا أن كل المسارات تصب في اتجاه النهاية، فإن التاريخ في هذه الأرض لا يُكتب بخطط السياسيين وحدهم، بل بصمود الناس، ودم الشهداء، ورفض الاستسلام.

شاهد أيضاً

تسليم أول سفينة أبحاث علمية شاملة ذكية تحمل اسم "تونغ جي" من فئة المحيطات في الصين

تسليم أول سفينة أبحاث علمية شاملة ذكية تحمل اسم “تونغ جي” من فئة المحيطات في الصين

شفا – صُممت السفينة “تونغ جي” وبنيت بالكامل في الصين ويصل وزنها 2000 طن. تجمع …