
الدقّة الغزّاوية: غذاء الضرورة في زمن الحصار ، بقلم : منى سامي موسى
في ظل الظروف القاسية التي يعيشها سكان قطاع غزة، لم تعد التغذية مجرّد حاجة إنسانية أساسية، بل تحوّلت إلى معركة يومية من أجل البقاء. فمع اشتداد الحصار واشتعال العدوان المتكرر، تصدّرت الأزمات الغذائية مشهد الحياة اليومية، وفرضت تحوّلات كبيرة على طبيعة المائدة الغزّية، حتى بات تأمين وجبة بسيطة تحديًا حقيقيًا، خاصة في ظل غياب الموارد وانقطاع الإمدادات.
من بين تلك التحوّلات، برزت “الدقّة الغزّاوية” كرمز جديد لواقع مرّ، يعكس حجم الحرمان، ويجسّد قدرة الغزيين، وتحديدًا النساء، على التأقلم مع أقسى ظروف الحياة. ليست “الدقة” اختراعًا جديدًا في المطبخ الغزي، لكنها خلال الحرب الأخيرة تحوّلت إلى وجبة شبه أساسية، بعد أن غاب الخبز، وشحّت المواد الغذائية، وبات كثير من العائلات يواجهون الجوع بخيارات محدودة تُصنع من المتوفر فقط، لا من الرغبة أو الذوق.
النساء الغزيات لعبن الدور الأكبر في هذا التكيّف القسري، إذ شرعن في إعداد خلطات منزلية تعتمد على العدس المطحون، المحمّص على أفران الطينة، ثم يُضاف إليه الكمون، الكزبرة، الملح، وأحيانًا الفريكة أو البرغل أو الدقيق المحمص، بهدف توفير نكهة ولو بسيطة، تُمكّن الأطفال من ابتلاع لقمة تسدّ الرمق، في غياب بدائل مغذية أو متاحة.
لكن خلف بساطة هذه الوجبة، تكمن معاناة مركّبة. إذ يتم تناول الدقّة في الغالب دون زيت الزيتون، بسبب ندرته أو غلائه الفاحش، ما أفقدها القيمة الغذائية، وتسبّب في مشكلات صحية شائعة، كالحموضة واضطرابات الهضم، نتيجة الإفراط في التوابل وغياب الدهون الصحية. وعلى الرغم من أنها تسد الجوع مؤقتًا، إلا أنها لا تلبّي الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية، مما يضع السكان، وخصوصًا النساء والأطفال، في مواجهة مع تبعات صحية خطيرة على المدى البعيد.
“الدقة الغزاوية” ليست فقط أكلة اضطرارية، بل مرآة لأزمة أعمق، تكشف هشاشة منظومة الأمن الغذائي في القطاع، وتؤشر إلى تحوّل الغذاء من فعل اجتماعي وثقافي، إلى وسيلة للبقاء فقط. إنها شهادة حية على يوميات الأسر الغزية، التي أُجبرت على استبدال وجباتها بأشكال بديلة لا تُشبع الجسد ولا تُرضي الروح، في واقع يهدد الصحة الجسدية والنفسية والاجتماعية معًا.
من رحم هذا الحرمان، تولد وصفات “مبتكرة” لا يُراد منها التفاخر، بل تُعبّر عن عزيمة لا تنكسر، تقودها النساء داخل مطابخ فقيرة، يحوّلن فيها القليل إلى الممكن، ليُبقين الحياة دائرة داخل منازلهن. ومع كل وجبة “دقة” تُعدّ، تُسجّل المرأة الفلسطينية سطرًا جديدًا في قصة الصمود الغزي.