
منظور الصين والدول العربية حول الابتكار في الحوكمة العالمية ، بقلم : ما تينغ
كيف يُقلل الوسيط من مخاطر تصعيد النزاعات عبر الوساطة الوقائية؟
في عصر التعمّق الشديد للعولمة، تشهد آليات حل النزاعات الدولية تحولاً نموذجياً. فمحدودية المواجهة في النموذج القضائي التقليدي وتكاليفه الإجرائية، لم تعد قادرة على التعامل مع لعبة المصالح للأطراف المتعددة. توقيع “اتفاقية المحكمة الدولية للوساطة” في هونغ كونغ عام 2025، يُمثل إطلاق نظام حوكمة مرن يتمحور حول الوساطة الوقائية.
تنتمي الصين والدول العربية إلى حضارات قديمة، وتتشاركان قيم “التوافق سيد الأحكام” و”التشاور لتحقيق الفوز المشترك”. في ممارسات البناء المشترك “للحزام والطريق”، لم تصبح الوساطة الوقائية أداة فعالة لحل النزاعات العابرة للحدود فحسب، بل وممارسة مهمة لابتكار الحوكمة العالمية. تنطلق هذه الورقة من المشتركات الثقافية واحتياجات الحوكمة بين الصين والدول العربية، وتستعين بحالات واقعية لاستكشاف كيفية قيام الوسيط بالسيطرة الأمامية على مخاطر النزاعات عبر الوساطة الوقائية، وتقديم حكمة الصين والدول العربية لبناء نظام حوكمة عالمي شامل.
أولاً: الإطار النظري والأساس العملي للوساطة الوقائية
تكمن القيمة الأساسية للوساطة الوقائية في منع المشاكل قبل وقوعها، عبر التدخل المبكر في التناقضات الكامنة، واستبدال التشاور المرن بالقرارات الصارمة، لتحقيق معالجة النزاعات من المنبع. تظهر هذه الآلية مزايا فريدة في التعاون بين الصين والدول العربية:
من حيث الكلفة والفعالية: عند معالجة مركز نينغشيا للوساطة لنزاع تجاري بين شركة عُمانية ومورد صيني عام 2025، تم تحقيق تسوية في 5 أيام فقط، وتم توفير 70% من الوقت وتكاليف الأموال مقارنة بالتقاضي العابر للحدود؛
من حيث استعادة العلاقات: نجاح الصين والدول العربية في التوسط لاستعادة العلاقات بين السعودية وإيران عام 2023، تم من خلال تصميم “آلية الثقة المتبادلة التدريجية” على أساس احترام هواجس الطرفين الأساسية، مما أدى في النهاية إلى مصافحة دولتين حضاريتين كبيرتين بعد قطيعة دامت سبع سنوات. حكمة الوساطة هذه في “عدم إيذاء الوجوه والحفاظ على الجوهر”، تتماشى مع السعي المشترك للكرامة والانسجام في الثقافتين.
الأساس المؤسسي للتعاون بين الصين والدول العربية ينبع من المشتركات الحضارية والتكامل الآلي. مبدأ “الشورى” الذي تتبناه الحضارة العربية وفكرة “الانسجام في إطار الاختلاف” في الحضارة الصينية، يوفران تربة ثقافية طبيعية للوساطة. في الممارسة القانونية، يشكل النظام الحديث للتحكيم في مركز دبي المالي الدولي اندماجاً عضوياً مع نظام الوساطة الشعبي الصيني في “الحكمة التقليدية + سيادة القانون الحديث”. في نزاع مشروع الطاقة المتجددة بين مصر وشركة صينية عام 2024، استند الوسيط بمهارة إلى مبدأ “المعاملة العادلة” في الشريعة الإسلامية وبند حسن النية في “القانون المدني” الصيني، مما سهل التوافق المزدوج لمعايير التكنولوجيا ومخطط توزيع الأرباح، وعكس فعالية التكامل لحكمة القانون عبر الحضارات.
ثانياً: المسارات العملية الرئيسية للوساطة الوقائية
التعرف المبكر على المخاطر هو الحلقة الأولى للوساطة الوقائية. في تعاون الطاقة بين الصين والدول العربية ضمن “الحزام والطريق”، أنشأ الوسيطون الصينيون نظام وقاية على ثلاثة مستويات: “مراجعة مسبقة للعقود – متابعة التنفيذ – تدخل إنذاري”، وعبر حلول مثل تعديل نسب عملات الدفع وإدخال ضمانات بنوك تنموية متعددة الأطراف، تم تجنب العديد من النزاعات العمالية والمطالبات الدولية المحتملة. هذا التفكير الحوكمي “لعلاج ما قبل المرض” نقل نقطة معالجة النزاعات إلى مرحلة ظهور المخاطر.
الحساسية الثقافية هي عامل التزليق الحاسم لنجاح الوساطة. الثقافة العربية تركز على صنع القرار الجماعي والرنين العاطفي، بينما تؤكد الثقافة التجارية الصينية على كفاءة التسلسل الهرمي والعقد المكتوب، وغالباً ما تؤدي اختلافات الاثنين إلى انزياح في التواصل. في نزاع تسليم البضائع بين مستورد عُماني وتاجر إلكتروني صيني عام 2025، اكتشف الوسيط أن الجانب العربي يعبر عن مطالبه عبر ممثلي العائلة، بينما يعتمد الجانب الصيني على الأدلة المكتوبة في المراسلات، فقام بتعديل استراتيجية التواصل: من جهة نظم اجتماعات مغلقة لطبقة صنع القرار الأساسية للطرفين، مستخدماً تعاليم القرآن “وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ” لتأكيد أهمية الإجماع؛ ومن جهة أخرى توجيه الجانب الصيني لتقديم سجلات التواصل عبر أدوات المراسلة الفورية، مما أدى في النهاية إلى تحقيق مخطط التوقيع الإلكتروني على أساس احترام عادات صنع القرار للطرفين، وتم تقليل دورة معالجة النزاع إلى 5 أيام.
آليات التعاون متعدد الأطراف تبني شبكة متعددة الأبعاد للوساطة الوقائية. في المجال التجاري، أنشأت الملحقية الاقتصادية والتجارية للسفارة الصينية في السعودية ومركز الرياض للوساطة “آلية الربط ثنائية المسار”، لتحقيق الربط السلس بين إنذارات المخاطر الحكومية وردود مطالب الشركات وخدمات الوساطة المهنية، وضمان التقدم السلس لمشاريع التعاون بين الصين والسعودية في مختلف المجالات.
ثالثاً: التحديات والاستجابات المبتكرة الناتجة عن الاختلافات الثقافية
تعدد الأنظمة القانونية بين الصين والدول العربية يشكل تحدياً واقعياً. دمج الأنظمة القانونية العربية بين الشريعة الإسلامية والقانون المدني والقانون العرفي، وغالباً ما تحتوي العقود التجارية السعودية على بنود “الوقف” (التبرعات الدينية)، بينما تفتقر الشركات الصينية للمعرفة بهذه الاتفاقات الدينية. في نزاع مشروع عقاري سعودي لشركة صينية عام 2024 بسبب عدم تخصيص “أراضٍ للمنفعة العامة”، قام فريق الوساطة بإدخال “القاضي” (القاضي الإسلامي) المحلي السعودي كمستشار خبير، وتحويل 3% من أرباح المشروع إلى صندوق المنفعة العامة المجتمعية، مستوفياً متطلبات الشريعة الإسلامية مع ضمان أرباح الشركة المعقولة. قدرة “ترجمة الثقافة القانونية” هذه أصبحت مفتاحاً لتجاوز الفروق النظامية.
اختلاف أنماط التواصل يحتاج إلى ابتكار في العمليات. تركز المفاوضات التجارية العربية على “الأولوية للعلاقات”، وغالباً ما يرافق عملية صنع القرار مشاورات غير رسمية متعددة، بينما يميل الفريق الصيني إلى الدخول مباشرة في مناقشة البنود. في مفاوضات منطقة التجارة الحرة بين الصين والدول العربية، صمم فريق الوساطة “عمليات متكيفة ثقافياً”: الترتيب المسبق لزيارات الوفدين لمعارض التراث الثقافي للطرف الآخر، لبناء روابط عاطفية؛ استخدام “منهجية تصنيف القضايا” أثناء المشاورات الرسمية، للتوصل أولاً إلى اتفاق شفوي على الإجماع المبدئي، ثم التفصيل التدريجي للنص القانوني، مما سهل في النهاية تحقيق إجماع اختراقي بين الصين والدول العربية على قواعد التجارة الرقمية.
جوهر مواجهة التحديات يكمن في بناء منظومة القدرات عبر الثقافات. يجب تنفيذ خطط تعلم وتدريب حول أساسيات الشريعة الإسلامية، ونظام الوساطة الصيني، ومهارات التواصل عبر الثقافات، كما أصبحت التكنولوجيا الرقمية مفتاحاً للحل، حيث يمكن لمنصة “الوساطة الذكية” التي طورتها المحكمة الدولية للوساطة في هونغ كونغ محاولة دعم الترجمة الفورية للمصطلحات القانونية بين العربية والصينية، وتوليد تلقائي لنماذج اتفاقيات وساطة تتوافق مع العادات القانونية للطرفين، مما يوقع تخفيض تأثير حواجز اللغة في الوساطة العابرة للحدود بنسبة 60%.
رابعاً: رؤية الحوكمة المستقبلية للتعاون بين الصين والدول العربية
تعميق تعاون الوساطة الوقائية له أهمية استراتيجية لبناء مجتمع المصير المشترك بين الصين والدول العربية. على مستوى حوار الحضارات، أصبحت الوساطة الوقائية حاملة لممارسة التبادل الثقافي بين الصين والدول العربية. في تعاون نقل التكنولوجيا بين الصين والدول العربية، غالباً ما تشمل عملية الوساطة اصطدام “البراغماتية” للمهندسين الصينيين مع “التفكير الشمولي” للباحثين العرب. في مفاوضات معايير تقنية الطاقة الشمسية بين الصين ومصر عام 2024، قام الوسيط بتنظيم زيارات الخبراء الفنيين للطرفين لمختبرات بعضهما، مما سهل حل “تعديل المعايير محلياً + الاعتراف المتبادل بالمؤشرات الأساسية”، محافظاً على ميزة التكلفة والأداء للتكنولوجيا الصينية ومتوافقاً مع متطلبات المناخ والبيئة في المنطقة العربية. هذا التشاور الثقافي ضمن التعاون التقني، وضع أساساً متيناً للثقة المتبادلة بين الحضارات.
تجاه المستقبل، يمكن للصين والدول العربية تعزيز الابتكار المؤسسي في ثلاثة جوانب: إنشاء “مستودع مشترك لحالات الوساطة الوقائية”، يجمع حالات نموذجية في مجالات الطاقة والتجارة والبنية التحتية، لتشكيل دليل عملي قابل للتكرار؛ دفع توحيد معايير قواعد الوساطة إقليمياً، عبر وضع مشترك “لاتفاقية الوساطة التجارية العابرة للحدود بين الصين والدول العربية”، لتوضيح بنود أساسية مثل مؤهلات الوسيط وقواعد الإجراءات وتنفيذ الاتفاقيات؛ إنشاء “برنامج تبادل للوسيطين الشباب”، عبر أشكال مثل تبادل المتدربين ومسابقات الوساطة المحاكية، لتنمية مواهب حوكمة جيل جديد تجمع بين القدرات المهنية والهوية الثقافية.
الخاتمة
قيمة الوساطة الوقائية لا تكمن فقط في حل نزاعات محددة، بل في إعادة تشكيل المنطق الأساسي للحوكمة العالمية من “الحكم بالفوز/الخسارة” إلى “تصميم الربح المشترك”، ومن “الإصلاح بعد الحدث” إلى “الوقاية المسبقة”. أثبتت الحضارتان الكبيرتان الصينية والعربية عبر الممارسة، أنه عندما تلتقي “حكمة الشورى” في الشريعة الإسلامية مع “فلسفة الانسجام” في الوساطة الصينية، يمكن إنتاج فعالية حوكمية تتجاوز الفروق النظامية. مع نضج نظام المحكمة الدولية للوساطة، يقدم هذا الابتكار الحوكمي المتجذر في الثقافة الشرقية خياراً جديداً لحل النزاعات في عصر العولمة. كما يقول المثل السعودي: “اللِّسانُ تَرْجُمانُ القَلْبِ”، فالوساطة الوقائية هي أفضل ممارسة للترجمة المتبادلة بين حضارتي الصين والدول العربية، فهي لا تقلل فقط من مخاطر تصعيد النزاعات، بل تبني جسور التفاهم والتعاون في رحلة بناء مجتمع المصير المشترك للبشرية.
- – ما تينغ – باحثة في مركز الدراسات الشرق الأوسطية، جامعة صن يات – سين .
إقرأ مزيداً من الأخبار حول الصين … إضغط هنا للمتابعة والقراءة