2:10 مساءً / 24 يونيو، 2025
آخر الاخبار

قراءة انطباعية في كتاب معاصر السمسم بين الماضي والحاضر للدكتورة سارة الشماس ، بقلم: د. تهاني رفعت بشارات

قراءة انطباعية في كتاب معاصر السمسم بين الماضي والحاضر للدكتورة سارة الشماس ، بقلم: د. تهاني رفعت بشارات

حين يكتب المثقف الحقيقي، فإنّه لا يكتب من برجٍ عاجيّ ولا يروي حكايا منفصلة عن هموم وطنه، بل ينغرس في الأرض كما تنغرس البذرة، وينبت قلمه سنابل من وعيٍ ومعرفة. هذا ما فعلته الكاتبة المقاومة الدكتورة سارة الشماس في كتابها الرائع “معاصر السمسم”، الذي يمكن وصفه دون مبالغة بأنه وثيقة علمية أدبية ثقافية تسجّل تاريخاً، وتحفظ تراثاً ، وتعيد للذاكرة الجماعية حضورها الحيّ المتجذر في الأرض والهوية.

كتاب “معاصر السمسم” ذو أبعاد تاريخية اجتماعية اقتصادية، جاء داعماً ومؤكداً للموروث الثقافي والحضاري لفلسطين العروبة، سيدة الأرض، وبلد الأنبياء. فقد استحضرت الدكتورة الشماس عبر سطور كتابها وقائع وأحداثاً تؤرخ للإنسان الفلسطيني والأرض الفلسطينية، واختارت من باب السمسم أن تدخل بجرأة وذكاء إلى عمق التراث، فعرّفتنا بمادة غذائية بسيطة في ظاهرها، عظيمة في رمزيتها ودلالاتها.

لقد تناولت الكاتبة موضوع السمسم بتفاصيل دقيقة تنبئ عن صبر الباحث وأمانته العلمية، وعن الجهد الدؤوب الذي بذلته لتضع بين أيدينا كتاباً ذا قيمة علمية وتوثيقية، يحمل في كل صفحة منه رسالة نبيلة، ناطقة بصدق الكلمة، وحرصٍ على التوثيق، وبطولة أدبية حين ترتجف القلوب وتضعف العزائم.

منهج الكاتبة يجمع بين عقل الباحث ونبض الوطن، فهي الكاتبة المقاومة من الدرجة الأولى، التي تحارب بقلمها وعلمها، وتؤمن أن الكلمة الحرة لا يليق بها إلا أن تُكتب من رحم الأرض، ومن وجع التجربة الفلسطينية. ومنذ الصفحات الأولى للكتاب، بدا واضحاً أن الدكتورة سارة لا تكتب عن السمسم فقط، بل عن تاريخ فلسطين، عن فلاحها، عن معاصرها، عن ترابها، عن معاركها الصغيرة التي تحفظ الوجود.

الفصل الأول: التاريخ الاقتصادي للسمسم


افتتحت الكاتبة كتابها بتسليط الضوء على الأهمية الاقتصادية لمادة السمسم، باعتبارها من المحاصيل الزيتية الهامة في فلسطين، مشيرة إلى مراحل زراعته واستخدامه في حضارات متعددة، وقدّمت شواهد لغوية ودلالية تشير إلى انتقال زراعته بين الثقافات، مثل تشابه أسماء السمسم بين الحضارات السامية والشرقية. وبأسلوب علمي سلس، عرضت الكاتبة أنواع السمسم وألوانه، وربطت بين هذه الأنواع وبين الصناعات الغذائية التي تدخل فيها، كاشفة بذلك عن بعد اقتصادي مهم لطالما غُفل عنه في الكتابات الزراعية الفلسطينية.

الفصل الثاني: السمسم في الحضارات القديمة


قدّمت سارة الشماس بانوراما تاريخية رصينة عن زراعة السمسم في أقدم الحضارات، مثل السومرية والآشورية والكنعانية، وبيّنت كيف انتقلت هذه الزراعة من الشرق إلى الغرب، مستندة إلى مصادر أثرية وتاريخية. لم تكتف الكاتبة بالسرد، بل قامت بتحليل المشاهدات الأثرية بعين الخبيرة في علم الآثار، لتجعل من السمسم مفتاحاً لفهم حضارات وطقوس اجتماعية واقتصادية عبر التاريخ.

الفصل الثالث: المعاصر والتقاليد


رصدت الكاتبة التحولات التي طرأت على “معاصر السمسم” التقليدية، تلك الأماكن التي كانت مركزاً للحياة الريفية الفلسطينية، فوثّقت مراحل تطور المعصرة من الحجر اليدوي إلى الأدوات المعدنية، ثم إلى المعاصر الحديثة، مبينة كيف حافظ الريف الفلسطيني على تقاليده رغم تطورات العصر. أرفقت الكاتبة ذلك بصور وأمثلة حية من بلدات فلسطينية، ما جعل هذا الفصل متحفاً حيّاً للتاريخ الشفهي الفلسطيني.

الفصل الرابع: التهديدات الحديثة والمقاومة الثقافية


في هذا الفصل، تُظهِر الكاتبة شجاعة المثقف العضوي، إذ تناولت كيف أن الاحتلال الإسرائيلي سعى إلى طمس الهوية الزراعية الفلسطينية، من خلال سرقة المحاصيل، وتدمير معاصر الزيت والسمسم، ومحاولة نسب التراث الزراعي الفلسطيني إلى “التراث العبري”. لكن الكاتبة وقفت بشجاعة، موثقة الانتهاكات، ومرددة عبر صفحات الكتاب أن السمسم الفلسطيني ليس مجرد غذاء، بل مقاومة.

أسلوب الكاتبة ومزايا الكتابة


جاء أسلوب الدكتورة سارة الشماس مزيجاً بديعاً بين اللغة العلمية واللغة الأدبية، فتارة تتحدث بلغة المؤرخ والباحث، وتارة أخرى تصوغ عباراتها بجمال الشاعر، وكأنها تقول: “العلم لا يكون علماً حقيقياً ما لم يُغنِ الروح أيضاً”. لغتها قوية، موثّقة، غير إنشائية، تحمل في طياتها الغيرة على الوطن، والحرص على الحقيقة، والوفاء للهوية.

كتبت الدكتورة سارة الشماس بصدق وحرارة، وبشغف الحنين، وبكل أمنيات العودة والاستعادة، تخلّد عبر سطور كتابها وقائع وحقائق تُجذّر هويتنا وتؤرخ لها، بحس الباحث، وأخلاق الكاتب المخلص لقضيته. وأعظم وأصدق مقياس للمثقف الحقيقي هو أن يكون مثقفاً عضوياً مشتبكاً مع أرضه ومجتمعه وقضايا أمته، وهذا ما تجلّى في صفحات الكتاب.

في الختام، لا يسعنا إلا أن ننحني احتراماً لهذا الجهد النبيل، ولهذه الكاتبة المقاومة، التي قدّمت لنا كتاباً غنيّاً ومؤسساً، لا يروي فقط حكاية السمسم، بل يروي قصة فلسطين في تفاصيلها الصغيرة، ويثبت من جديد أن المعركة ليست بالسلاح فقط، بل بالقلم، بالمعصرة، بالحرف، وبالذرة الصغيرة من السمسم، حين تُقاوم وتبقى.

كل التحية للدكتورة سارة الشماس …


ولقلمها الذي يزرع الأمل كما يزرع السمسم في تراب الوطن.

شاهد أيضاً

وزير خارجية الصين وانغ يي يلتقي نظيره السنغافوري

وزير خارجية الصين وانغ يي يلتقي نظيره السنغافوري

شفا – التقى وزير الخارجية الصيني وانغ يي، نظيره السنغافوري فيفيان بالاكريشنان، في بكين اليوم …