
التعلم في مواجهة تداعيات الحرب ، بين التدمير وإمكانية البناء ، بقلم : نسيم قبها
تبقى الحرب ظاهرة قديمة و متجددة، مرتبطة بتاريخ البشرية ومستقبلها وتطورها، إلا انها واحدة من أكثر الممارسات البشرية العنيفة إثارة للجدل من النواحي الأخلاقية والسياسية والتربوية. إذا كانت الحرب، بوصفها صراعًا مسلحًا، تهدف إلى تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية، فإنها بالضرورة تترك آثارًا عميقة على البنية النفسية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات. ومن هنا، يبرز السؤال الفلسفي التربوي: كيف يمكن فهم الحرب كظاهرة إنسانية، وما هو دور التعليم في مواجهة تداعياتها أو حتى منعها؟.
الحرب كتعبير عن أزمة التربية والتعليم الإنسانية :
يمكن النظر بالتدقيق إلى الحرب في قرن الإمبريالية على أنها فشل تربوي بنيوي متوحش ، قائم على الغطرسة والعنصرية والفاشية في التعامل مع الشعوب المقهورة ، وغزة التي يتم قتلها والتنمر عليها بشكل غير مسبوق أكبر مثال لذلك .
و قبل أن تكون الحرب فشلًا سياسيًا أو عسكريًا. فهي تنشأ من تعطيل العقل النقدي والحوار، وتعكس غياب ثقافة التسامح والتعايش ، لأن التعليم الإمبريالي يضغط دائما لتحييد توجهات التعلم التحررية والفكفكة من هياكل التبعيات له ، ما يعني تغييب التعليم كأداة لتمكين مناعة الشعوب في نيل حريتها الاجتماعية والسياسية ، بدلا من أن يكون ممارسة التعلم ممارسة وجود الذات .
في هذا السياق، يرى الفيلسوف إيمانويل كانط ، في مقاله “السلام الدائم” أن الحرب تنبع من غريزة العدوانية البشرية، لكنها يمكن أن تُحَل من خلال تربية أخلاقية تعزز العقلانية والمواطنة العالمية.
إن التربية التي تُعَلِّمُ الفرد أن ينظر إلى الآخر كعدوٍّ محتمل، أو التي تُغَذِّي الكراهية العرقية أو الدينية، تُسهم في خلق بيئة خصبة للعنف والفردانية في تسيّد العالم بالطريقة البشعة . أما التربية النقدية، التي تعلّم التفكير المستقل واحترام الآخر، فهي تمثل حاجزًا ضد التطرف والعنف دون التراخي في امتلاك القوة التي تواجه ألوان الاستعمار ، لذلك نجد دور التعليم في التصدي للتوحّش السياسي الجنوبي ، والذي قد يمنع دراسة العلوم في الشمال مستقبلا ، فيما لو بقيت تراخيات وانكماشات فضاءات التعليم الاستهلاكي دون قفزات التغيير ، ما يعني أن قيمة أي عمل نقدي يكمن في وشائج العلاقة التي تنمو وتزهر بين التعلم ، والتجربة المادية والشعورية، وإن الفروقات الدقيقة التي قد تتخلق عن هذا التآلف، هي بذاتها ما تصوغ التفاوت الجلي بين الآثار ، ونتاجات الثقافة النقدية بين مجتمع وآخر.
آثار الحرب التربوية: بين الصدمة وإمكانية التعلم:
لا تقتصر آثار الحرب على الدمار المادي، بل تمتد إلى تدمير البنى التربوية والنفسية. الأطفال الذين يعيشون في مناطق الحرب يفقدون فرصتهم في الخيال و التعليم والحياة ، ويتعرضون لصدمات نفسية تؤثر على نموهم الأخلاقي والعقلي. هنا، تظهر أهمية التربية بعيدا عن ( الأشخاص السّامة) في إعادة تأهيل الضحايا، سواء من خلال التعليم العلاجي أو برامج الدعم النفسي العاطفي الاجتماعي ، لكن (وبشكل متناقض)، يمكن للحرب أن تكون أيضًا مُعَلِّمًا قاسيًا. فكما قال هيجل ، “التاريخ يُعَلِّمنا أن الشعوب والحكومات لم تتعلم شيئًا من التاريخ.” ومع ذلك، فإن الدروس المستفادة من ويلات الحرب قد تدفع الأجيال اللاحقة إلى تبني قيم التعايش العالمي لا كشعار ، بل ممارسة. فالناجون من الحروب غالبًا ما يصبحون دعاة للتسامح والعيش الكريم ، لأنهم عانوا من غيابها القصري نتيجة جشع تعليم الإمبرياليات.
التعلم كأداة لمنع الحرب: نحو ثقافة الكل للواحد والواحد لاجميع:
إذا كانت الحرب تنبع من الجهل والتعصب، فإن ممارسة التعلم هو السلاح الأقوى لمحاربة هذه الأسباب ، لأن التعلم يمتطي درب تعليم حقوق الإنسان ، واحترام كرامة الآخر ، وأن تفكر في تنمية التفكير النقدي لمقاومة الخطابات التحريضية التي تخرج من مدارس الشركات ، وبالتالي فإننا من خلال هذا التفكير إنما نعزيز الحوار الجاد والناعم بين الثقافات ، بدلًا من الصراعات التي تقوده ثقافة الشركة العابرة.
وكما أشار جان بياجيه إلى أن التربية الأخلاقية يجب أن تُعَلِّم الطفل كيفية التعاون بدل التنافس المدمر ، فيجب أن نشير إلى تطوير فعل المدرسة التعلّمي ، ما يتطلب إصلاحًا وانقلابا تربويًا يجعل من المدارس فضاءً لبناء التعايش والاحترام ، وليس ساحة لتكرار الصراعات الاجتماعية ، أو للتجريد الايدولوجي والبيروقراطي الذي يوظف العقل الاداتي للمتعلم في كيفية التعامل والحكم على الأشياء ، في غياب تام لعناصر التعلم التحررية المعتبرة غير ضرورية في اللاوعي ، ما يحبك مؤامرة المدرسة في صورتها الاستعمارية المسقطة على عقول الاطفال في الهيمنة الثقافية لمجتمعات مهزومة .
إن الحرب ليست قدرًا محتومًا، بل نتيجة لاختيارات بشرية طمّاعة يمكن تغييرها. والتعلم والتعليم ، بوصفهما أداة لتشكيل العقل والوجدان، يلعبان دورًا محوريًا في تحويل منطق العنف إلى منطق الحوار. إن بناء جيل جديد يؤمن بثقافة التشاركية العالمية ليس ضربًا من المثالية، بل استثمارًا في مستقبل تختفي فيه الحاجة إلى الحروب. وكما قال غاندي: “إذا أردنا أن نغيّر العالم، فلنبدأ بتعليم الأطفال.”
- – نسيم قبها – الإئتلاف التربوي الفلسطيني .