
الثانوية العامّة شبَح المُعدّل، بوابَة الحياة، وغاية الغايات ، بقلم : أ. مروة معتز زمر
بسم الله الرحمن الرحيم
في زحام الحياة، هناك عامٌ يقف له الطلاب وقوف الوَجلين، عامٌ لا يُنسى، ولا يُستهان به، عامٌ يسمّيه الجميع: الثانوية العامة.
عامٌ واحد فقط، لكنّه في ميزان الحياة يبدو كالعمر بأكمله؛ ترتفع فيه دعوات الأمهات في ليالي السهر الطويلة، تُغلق فيه أبواب الراحة، وتعلَّق في الهواء علامات استفهام لا تنتهي: هل سيتحقق الحلم؟ هل يأتي المعدّل المنتظر؟ ماذا بعد؟
في هذه البلاد، لا يُمتحن الطالب وحده، بل تُمتَحن العائلة بأكملها؛ تُختبر الأم في صبرها، ويُمتحن الأب في كتمان قلقه وإظهار تماسكه، ويخضع البيت كلّه لاختبار ثقيل في الثبات أمام ضغط المجتمع، والعيون التي تتربص النتيجة بترقبٍ شديد.
وحين يتفق المجتمع على جعل نقطةٍ معينة هي مفتاح الصعود أو السقوط، يُخيّل للجميع أن الحياة لا تسير إلا عبر هذا المنعطف، تصبح الثانوية العامة ليست مجرد سنة دراسية، بل موسم صيد جماعي للأعصاب؛ امتحانٌ مشترك للطالب، وأمّه، وأبيه، وحتى لجده ولأقرب جار كان يزورهم قبل سنوات.
تتحول فيه النتيجة إلى حُكم علنيّ، إذا نجح الطالب، ابتسم الجميع وصفّقوا وكأنهم كانوا على ثقة من ذلك منذ البداية، وإذا تعثّر، بدأ العتاب الصامت، والهمس الخفي، والأسئلة الجارحة التي لا تُقال لكنها تُحس.
هكذا يتحوّل هذا العام إلى شبحٍ ثقيل اسمه (المعدّل)، وكأن الحياة قرَّرت فجأةً أن تختصر الإنسان كلّه في رقمٍ، أو في شهادة تُعلَّق على جدار المنزل، إمّا ليفتخر بها الأهل أمام الناس ويثبتوا أنهم نجحوا في التربية، أو ليخفوها خجلاً وحياءً لأنهم يشعرون أنهم فشلوا، كأنّ هذا الامتحان هو الميزان، وما قبله لا يُحتسب، وما بعده لا يُغتفر.
لا أحد يسأل الطالب إن كان بخير، إن كان خائفاً، متعباً، أو وحيداً، بل الجميع يقول له (شد حالك، ارفع راسنا) هذه أهم سنة في حياتك! ثم يتساءلون: لماذا يخاف الطالب إلى هذا الحد؟ لأن التعليم حين يتحول إلى وسيلة إثبات قيمة، يفقد معناه، ويفقد الطالب نفسه دون أن يشعر، ولا أحد يجرؤ على قول الحقيقة:
أن كل هذا مبالغ فيه، وأننا كبّرنا هذا الظل حتى صار شبحاً.
الثانوية العامة ليست امتحاناً في الرياضيات والفيزياء واللغة العربية فقط، بل هي امتحان في المرونة النفسيَّة، في قدرة الفرد على مواجهة القلق، الضغط، الترقب، والخوف من التوقعات، وفي داخل كل بيت هي امتحان في الحب، في الثقة، في الصبر، في التماسك الأسري.
في دوّامة هذا الضجيج، هناك حقيقة لا يذكرها أحد: الجهات ليست أربعة!!!
لا تركن عند فكرة واحدة، ولا تربط مستقبلك بجهةٍ واحدة، فلا الحياة محصورة بين شمال أو جنوب، ولا النجاح مرتبط بمسار وحيد مرسوم على خريطة المجتمع، فالطب والهندسة ليسا البابين الوحيدين للحياة، هناك أبواب لا تُرى إلا عندما تغلق في وجهك الطرق المعتادة، أبواب اسمها (الشغف، الفرصة الثانية، الإرادة، اتجاه القلب)
لو لم تحصل على المعدل الذي حلمت به، فهذا لا يعني أن الأبواب قد أوصدت أو أن فرص الحياة قد انتهت، بل يعني فقط أن هناك باباً آخر يخبئه الله لك، باباً لم يخطر على بالك ولم تضعه في خطتك، لكنه سيُفتح حتماً حين يأتي وقته، تماماً كما يكتب الله رزق الطائر قبل أن يطير.
لا تقدّس الثانوية العامة، ولا تعبد المعدّل؛ ولا تجعل من نتيجتك إلهاً يُعبَد أو قَدَراً يحكمك ويُقيّدك، فالحياة ليست خطاً مستقيماً، والنجاح لا يأتي في صورة واحدة ولا عبر مسار واحد، والأبواب التي تفتحها السماء ليست فقط تلك التي رسمها المجتمع لك وعلَّق عليها آماله.
إن لم يُفتح لك باباً توقّعته، فاعلم أن الله يُعِد لك باباً أجمل، باباً أرحب من أحلامك، وأقرب إلى قلبك مما ظننت، باباً هو هبةٌ من السماء لا يمنحها الله إلا لمن يؤمن بلطفه ويثق بحكمته.
يا طالب ويا طالبة الثانوية العامّة:
امضِ في طريقك حيث يفتح الله لك، وتذكّر دائماً أن الحياة ليست قطاراً لا يعود، بل طريقٌ ممتدٌ مليء بالمنعطفات، والعثرات، والجمّال الخفي لمن يسعى وهو مؤمن برحمة الله.
ويا أيُّها الآباء والأمهات: الثانوية العامة ليست ملحمة سنوية لقياس كفاءة العائلة
اقتربوا من أبنائكم، وكونوا لهم عوناً لا عبئاً، وسَكَناً لا ساحة محاكمة، لا تجعلوهم وسيلة لإرضاء غروركم أمام الناس، ولا ترفعوهم رايةً للتفاخر في مجالس المقارنات، هم ليسوا مشروعاً لإثبات نجاحكم، بل أرواحٌ صغيرة تحتاج في هذه المرحلة إلى حضنٍ آمن، وكلمة طيبة، وثقة صادقة، أكثر ما يحتاجونه حقّاً هو محبتكم التي لا تُقاس بالمعدّل، وطمأنينتكم التي لا تهتزّ بنتيجة.
وفي الختام، لنتذكر جميعاً:
الثانوية العامة مرحلة، لا مصير، المعدَّل رَقم، لا قدَر، والجهات ليست أربعة… بل أكثر بكثيرٍ مما نرى.