
لا إبداع في إهانة المقدسات: نحو ثقافة وطنية تعزز التعدد وتحترم الآخر، بقلم: د. عماد سالم
لا وطن دون قبول الآخر: عن التعددية الدينية وأخلاق العيش المشترك
أثار إعلان تجاري لإحدى شركات المسليات الفلسطينية، حمل عنوان “لوحة التسالي الأخيرة”، استياءً واسعًا في الأوساط المجتمعية والدينية، بسبب استخدامه لوحة العشاء الأخير، ذات الرمزية الدينية العميقة لدى المسيحيين، في سياق تسويقي ساخر ومهين، حوّل شخصياتها إلى رؤوس أغنام وبدّل مضمونها المقدس إلى عرض لمنتجات “الشيبس”.
إن هذه الصورة لا يمكن تصنيفها ضمن إطار “حرية الإبداع” أو “الفكاهة الإعلانية”، بل تُعد تعدياً صريحاً على مقدسات شريحة أصيلة من أبناء الوطن، وإساءة بالغة تمس القيم المشتركة التي تجمعنا كشعب واحد. فالمقدسات ليست مادة للتسلية، ولا الرموز الدينية مساحة للتهكم، ولا الترويج التجاري مبررًا لتخطي الخطوط الحمراء الأخلاقية والإنسانية.
إن التعدي على الرموز الدينية لأي مكون ديني، ليس فقط مرفوضاً أخلاقياً، بل خطير اجتماعياً، لأنه يفتح الباب أمام خطاب الكراهية، ويقوّض أسس الاحترام المتبادل، ويهدد النسيج المجتمعي، خصوصًا في ظل ظروف سياسية ووطنية دقيقة تتطلب منا مزيدًا من التماسك لا التفكك.
الاعتذار وحده لا يكفي. نحن بحاجة إلى مراجعة ثقافية شاملة، تعيد الاعتبار لقيم التنوع والاحترام، وتفرض ضوابط أخلاقية تحكم المحتوى التسويقي والإعلامي، وتربطه بمنظومة القيم الوطنية والدينية.
الإبداع مسؤولية أخلاقية
الإبداع الحقيقي هو الذي يبني، لا الذي يهدم، هو الذي يزرع التعدد والاحترام، لا الذي يستخف بالرموز ويهين مشاعر الآخرين. ونحن في فلسطين، حيث الوحدة الوطنية ليست ترفاً بل ضرورة، لا نملك رفاهية السماح بخطابات الاستهزاء أو الإقصاء، خصوصاً في هذا الزمن الذي يتطلب منا ترسيخ ثقافة جامعة ومتصالحة مع الذات والآخر.
التعددية ركن من أركان الهوية الفلسطينية
في ظل وجود مثل هذه الظواهر التي تمس مكونات دينية في بعض الخطابات أو الإعلانات، تبرز الحاجة إلى خطاب وطني جامع يعيد التأكيد على أن فلسطين لجميع أبنائها، مسلمين ومسيحيين، متدينين وعلمانيين، على حد سواء.
التعددية ليست حالة طارئة، بل هي حقيقة تاريخية وثقافية راسخة في وجدان الشعب الفلسطيني، الذي عرف عبر تاريخه المعاصر أجمل صور الوحدة الوطنية، حين وقف المسلم والمسيحي جنبًا إلى جنب يدافعان عن الأرض والكرامة والإنسان.
ولكن هذه الوحدة لا تُبنى على الشعارات، بل على ثقافة تربوية وإعلامية تعزز قيم الاحترام المتبادل، وتُظهر الرموز الدينية لجميع المكونات في مناهجنا ومدارسنا، وتُربّي أطفالنا على أن الاختلاف في العقيدة لا يعني العداء، بل يُغني الإنسان ويُعزز إدراكه للمعنى الأوسع للحرية.
كما أن الحرية الدينية وحرية الرأي لا تبرر مطلقاً الاستهزاء برموز الآخر، أو تصويرها في سياقات هزلية. فهذه الممارسات – وإن بدت عابرة – تؤسس لخطاب استعلاء وإقصاء، يُهدد النسيج الاجتماعي.
من المهم التذكير بأن التعددية الدينية ليست حالة استثنائية في فلسطين، بل هي جزء أصيل من تاريخها وهويتها الحضارية. لقد وقف المسيحيون والمسلمون جنبًا إلى جنب في ساحات النضال، وسُجنوا معًا، واستُشهدوا معًا، وما زالوا يعيشون تحت الاحتلال والمعاناة ذاتها. وليس من المقبول أن تُشوَّه هذه الصورة التاريخية بوصفها مجرد تعايش شكلي، فيما يتعرض جزء من مكوناتها للتهكم أو الاستهانة بمعتقداته.
من رد الفعل إلى الفعل الحضاري
إن رد الفعل المجتمعي الرافض لهذا الإعلان، والذي طال حتى الكثير المسلمين الغيورين على وحدة الصف الوطني، يجب أن يتحول إلى فعل حضاري منظم، يسعى إلى:
⦁ محاسبة الشركة والمصممين على هذا التصرف غير المسؤول.
⦁ سن مدونات سلوك للإعلان والمحتوى البصري تراعي القيم والرموز الدينية.
⦁ تعزيز المناهج المدرسية والإعلامية بمضامين تؤصل ثقافة احترام الآخر المختلف دينياً وثقافياً.
⦁ إطلاق مبادرات ثقافية وفنية تعزز التعدد والعيش المشترك، وتُظهر جماليات التنوّع الفلسطيني.
كلمة أخيرة
الوطن الذي نريد، ليس مجرد رقعة أرض، بل عقد أخلاقي واجتماعي يقوم على الاحترام والكرامة المتبادلة. فاحترام المقدسات ليس شأنًا دينيًا فقط، بل هو واجب وطني وإنساني، يمثّل الحد الأدنى للعيش معاً بسلام وعدالة.
ومن هنا، فإن أي خطاب أو إعلان أو محتوى يُهين معتقدات الآخرين أو يسخر من رموزهم، هو بمثابة تهديد مباشر للوحدة الوطنية، يجب رفضه ومحاسبته، لا التهاون معه.
لنبني وطنًا نحترم فيه بعضنا بعضًا، لا وطنًا نُضحك فيه بعضنا على حساب كرامة بعض.