
العقيد الشهيد محمد جميل الهدمي (أبو جميل): شيخ اللجنة العلمية وركن التصنيع الحربي في الثورة الفلسطينية ، بقلم المهندس غسان جابر
في زمنٍ كانت فيه الثورة الفلسطينية تبحث عن الثبات في وجه الريح، كان هناك رجالٌ يُشبهون الجبال في صبرهم، وصمتهم، وإنجازهم. من هؤلاء الرجال كان العقيد الشهيد محمد جميل عارف الهدمي (أبو جميل)، الذي يُعدّ أحد أعمدة العمل العسكري الفني في حركة “فتح”، وأحد أعظم من خدموا فلسطين بصمت، وببراعةٍ قلّ نظيرها.
من الجهاد المقدس إلى التصنيع الوطني
وُلد أبو جميل في قرية الشيوخ قضاء الخليل عام 1928، ونشأ في بيتٍ وطنيٍّ عُرف بالكرامة والانتماء. مع اندلاع حرب 1948، كان الشاب محمد جميل على الموعد، فانخرط في صفوف الجهاد المقدس بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني، وتحت إمرة القائد الشهيد إبراهيم أبو دية، ليتحمّل مسؤولية تسليح المقاومة. في وقتٍ شحيح بالإمكانات وكثيف بالمؤامرات، كان “أبو جميل” يعمل على تجهيز المقاتلين بما توفر من أدوات، ويصنع الفارق بما يملك من معرفة تقنية اكتسبها من الورش الميكانيكية المدنية.
التحاقه بحركة فتح وبداية مرحلة التصنيع
في أعقاب نكسة حزيران عام 1967، التحق أبو جميل بحركة “فتح”، حاملاً معه تجربة النكبة والنكسة معًا. تم تكليفه بمهمات عسكرية وفنية في قواعد الحركة بالأردن، لكنه سرعان ما أصبح محورًا حيويًا في الجهد العلمي العسكري لحركة “فتح”، خاصة بعد إدراك القيادة لأهمية إنشاء جهاز علمي لصيانة وتصنيع الأسلحة.
فكان من مؤسسي “اللجنة العلمية” التي أُنشئت في الكويت عام 1969، ثم توسّعت لتشمل مراكز في سوريا ولبنان واليمن والعراق. وتولى العقيد الهدمي قيادة مركز “11” في صيدا، والذي أصبح مصنعًا سريًا لتطوير الأسلحة الخفيفة والثقيلة، أبرزها:
راجمات غراد و107 ملم
هاونات بمختلف العيارات
القنابل اليدوية والمسدسات والذخائر
صيانة الأسلحة الروسية والغربية
لقد كان مركز “11” تحت إشرافه عمودًا فقريًا لقدرات الكفاح المسلح، وساهم بفعالية في تعزيز صمود المقاومة خلال الاجتياحات الإسرائيلية للبنان، خصوصًا عامي 1978 و1982.
علاقته بالرئيس ياسر عرفات (أبو عمار)
امتدّت علاقة العقيد الهدمي بالرئيس الشهيد ياسر عرفات (أبو عمار) لسنوات طويلة، علاقة كانت قائمة على الثقة المطلقة والتقدير العميق. فقد كان أبو عمار يرى في “أبو جميل” الرجل الهادئ الذي يعمل خلف الستار، يصنع السلاح، ويحافظ على دقة التنفيذ، ويخدم “فتح” بيدين بارعتين لا تعرفان الكسل.
في إحدى المرات، نقل مقربون عن الرئيس عرفات قوله:
“كل بندقية تعمل، وكل صاروخ ينطلق، وراءه عقل وفن اسمه أبو جميل الهدمي”.
هذه العلاقة لم تكن فقط سياسية أو وظيفية، بل رفقة نضال بدأت في الميدان واستمرت في المنفى، مرورًا ببيروت، وصيدا، وصنعاء، وانتهاءً بالقدس.
الاعتقال في أنصار والتفوق في أحلك الظروف
خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وقع العقيد أبو جميل في الأسر، ونُقل إلى معتقل أنصار سيء السمعة. لكن حتى في الأسر، كان الهدمي عنوانًا للصبر، والإباء، والمعرفة.
وحين دخل الاحتلال إلى مركز “11”، ذُهل من الإمكانيات البسيطة التي تمكّن بها هذا الرجل وفريقه من تصنيع منظومة تسليح متكاملة. أُفرج عنه لاحقًا ضمن صفقة تبادل الأسرى، ليعود مرة أخرى إلى العطاء.
نقل الخبرة إلى اليمن والعراق: توسيع القاعدة التكنولوجية
بعد الخروج من بيروت وطرابلس، انتقل أبو جميل إلى اليمن ضمن مشروع علمي مشترك بين “فتح” والحكومة اليمنية لتأسيس قاعدة تصنيع عسكري. هناك، شارك في نقل الخبرات، وتدريب الكوادر، وتصنيع راجمات وقنابل بأيدٍ فلسطينية – يمنية.
كما ساهم في إنشاء فرع للجنة العلمية في العراق، مؤكّدًا أن القضية الفلسطينية كانت في قلب كل تحرّكه، حتى وهو في المنافي.
العودة إلى القدس والرحيل بصمت الأبطال
عاد العقيد محمد جميل الهدمي إلى أرض الوطن بعد اتفاق أوسلو، لكنه بقي بعيدًا عن الأضواء، يحمل همّ شعبه وقضيته. وفي 2 تشرين الثاني 1998، أسلم الروح في مستشفى المقاصد بالقدس الشرقية، بعد معاناة مع مرض عضال، ليرحل كما عاش: صامتًا، صامدًا، مناضلًا.
الإرث العسكري والوطني
العقيد الهدمي لم يكن مجرد خبير تسليح، بل كان مؤسسة قائمة بذاتها في مجالات التصنيع والصيانة والتدريب والتطوير. خرّج أجيالًا من الفنيين والمهندسين، وكانت بصماته حاضرة في كل سلاح حمله مقاتل فلسطيني من أبناء حركة “فتح”.
لقد شكّل دوره أحد الأعمدة الفنية التي حافظت على الاستقلالية العسكرية للمقاومة الفلسطينية، وعززت مبدأ “الاكتفاء الذاتي” في السلاح، في ظل الحصار والعزلة والتضييق الإقليمي.
نقول بفخر: شهادة للتاريخ ووثيقة للأجيال
العقيد الشهيد محمد جميل الهدمي، ابن الشيوخ في الخليل، هو صفحة ناصعة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وصوت المكائن الهادئ الذي سبق دويّ القذائف في المعركة.
إن توثيق سيرة هذا الرجل هو واجب وطني وأخلاقي، ليس فقط تكريمًا له، بل لأن الأجيال القادمة يجب أن تعرف أن الكفاح لا يصنعه فقط من يطلق النار، بل من يصنع السلاح بصمت، ويمنح النصر وجهًا آخر: وجه المهندس المقاوم.
رحمك الله يا أبا جميل، وأسكنك فسيح جناته.
م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.