6:48 صباحًا / 13 أكتوبر، 2024
آخر الاخبار

فاعلية اللغة ومقاربة التغريب في رواية “بيادق ونيشان”، للكاتب: يوسف حسين ، بقلم : علي لفتة سعد

فاعلية اللغة ومقاربة التغريب في رواية “بيادق ونيشان”، للكاتب: يوسف حسين، بقلم : علي لفتة سعد

ما يميّز هذه الرواية أن كاتبها يمتلك الخزين النوعي من اللغة، وبإمكانه أن يمسك بالمفردات ويحوّلها إلى جسدٍ سردي، مثلما يوزّعها على ثوب السرد بطريقة الشِّعر. فالكاتب يعني ما يريد من اللغة، واللغة تعني ما يريد من قصد، وبالتالي فالمعادلة تأتي أُكلها حين يتحصل المتلقّي على نقطة تواصلٍ في منطقة التأويل، لكنها لن تكون ميسّرةً أو واضحةً -هذه النقطة- بالنسبة إلى القارئ، فهي رواية دهشة اللغة ودهشة التناول بالممكنات الفكرية لتوصيف الحكاية. وإذا ما تجاوزنا العتبات كما يسمّيها جيرار جينيت من العنوان والمقدّمات لأحمد شوقي ونجيب محفوظ، نجد كأن المنتِج يوسف حسين في روايته “بيادق ونيشان” يعلن في مقطعٍ له أن الفكرة ستناقش ما يريده، ما جعله ضوءًا إعلانيًّا، يؤدّي إلى فهم المحتوى، وبالتالي فهم الفكرة: “نحن الكاذبون… إذا أردنا أن يصدقنا الناس.. كتبنا”. ولم يقل “الكاذبين”، كونه يريد التأكيد عليها، وكونها جملة سبقت الإهداء المرتبط بالعنوان (البيدق)، الذي له دلالة ليست مرتبطةً بلعبة الشطرنج فحسب، بل بما تعنيه من إزاحةٍ لنوعٍ معيّنٍ من البشر، يتحوّل إلى بيادق بيد الآخرين، فيكون ضحيةً وضحايا، ويتسبّب في كثرة الضحايا أيضًا. تلك معادلات التفكير الأولى التي أراد بها التعريف بمهمة البيادق في الحياة، وما تتلو علينا من “نياشين” مهمّة تتعلق بالبحث عن أهمية العتبات التي تتّصل بالعنوان، وتأخذ من مفاتيحه لتوزّعها على أبواب الرواية.

⦁ الاستهلال وبدء الصراع:


تبدأ اللعبة بممارسة اللغة الشعرية السردية منذ الاستهلال، فهو يبدأ بعنوان فصلٍ صادم، يبحث عن نوافذ القصدية بفاعلية التواجد الإدهاشي، الذي يرسم الاستهلال، ليعطي المنطقة ضوءها التفاعلي (بتوقيت الجحيم) فيذهب المتلقّي إلى أن الزمن هنا ليس له علاقة بالحاضر أو الماضي أو المستقبل، رغم أنه يبدأ تقسيمات الفصل بزمنٍ محدّدٍ، ليبدأ بعدها بتحديد الصراع وفق هذا الزمن المعنون، زمن الخوض في المبنى السردي والمتن الحكائي معًا. لذا اعتمد الروائي في بثّ ملامح الفكرة، عبر الاستهلال الذي يمازج بين ثلاثة مستويات: الإخباري والتحليلي والتصويري: “وعيون المتربصين كانت أشد فتكًا بقلبه من رصاصة غادرة تلقَّاها منذ شهور مضت، رصاصة ما تزال عالقة في قلبه، لم يستطع أحد إخراجها منه”.


ثم يذهب إلى تحديد المسار الزمني تحديدًا واضحًا للملتقّي، بمتابعة فهمه والنوايا التي يبيّتها الكاتب:
“اليوم فقط، في الثاني عشر من أكتوبر، لعام اثنين وعشرين بعد الألفية الثانية، وداخل هذا المبنى العملاق…”.


إنه يتلاعب منذ البدء في إحداث فوضى الترتيب في المتن الحكائي، وعلى المتلقّي الإمساك بالمبنى السردي، حين تتوضّح الملامح الحكائية الأولى لرجلٍ أصيب بطلقٍ ناريّ، والراوي الذي يصف المكان بطريقة تغريب الواقع، ومنح الفعل الفنتازي هوية الممارسة السردية، ومن ثم قيادته إلى الفعاليات الأخرى، التي تحتاجها الحكاية، للوصول إلى لحظة الإمساك بالفكرة وإدارة حدثها. لذا يكون المتلقّي قد وضع ورقةً ليبحث عن حيثيات البيادق وعلاقتها بالرصاصة والموت، ومن الذي يميت ومن سينتهي أوّلًا، ثم من هو “النيشان” الذي يحدّد لحظة توجيه الإصابة بدقّة المتلقّي المنبعثة من حياة الشخصيات، التي تؤلّف الحكاية وتناقش الفكرة.


إن الاستهلال يقود الحركة الفعلية باتجاه التصاعد العمودي للفكرة والاتجاه الأفقي للحكاية، وهو البدء في الانطلاق، لأن أيّ الاستهلال يوزّع اتجاهات الصراع، وهو صراعٌ بدا فنتازيًّا تغريبيًّا مخالفًا باحثًا عن مهادٍ أوّليّ لجذب المتلقّي وصنع الدهشة، فيرسم المكان على أنه المنطقة العليا، التي تصعد إليه كلّ الحركات الأخرى بماضيها وحاضرها:


“داخل القاعة أعطى عقله إشارة لعينيه للبحث عن شخص واحد فقط، شخص تمنى ألا يحضر تلك المحاكمة…”، “عندما سمع الحاجب ينادي: “محكمة”، وقف والجميع يترقبون دخول القاضي ومستشاريه، لم ينتبه هذه المرة لصوت الحاجب الجهوري وهو ينادي عليه وخصمه”.


هنا تم تحديد أهمّ عنصرٍ في الصراع، والذي سيبني عليه الفعل الدرامي، الذي سيتراكم مع حركة الشخصيات. وهي حركةٌ استدعائيةٌ، مثلما هي إشارية، لكنها لا تخرج من الخاصية التغريبية.


بمعنى أن الاستهلال هو القبضة الأولى التي تنفتح على راحة السرد، وهو القبضة التي ستُضَم مرّةً أخرى لتوجيه “لكمة” الحكاية والغاية التي ترتبط بالعنوان وعتبات المقدّمة التي تسبق الرواية.

⦁ فاعلية اللغة:

الشخصية الفاعلية (آدم) الذي يحتاج من المتلقّي إلى أن يراقبه كثيرًا، وأن يربط الاسم بالمجريات، عبر الصراع، وماهية الاسم ودلالته من جهة، وفاعليته في هذه الحياة ومسؤوليته من جهةٍ أخرى. وهي متابعةٌ تحتاج إلى الكثير من التأمّل والتحمّل والتصبّر، لأنها رواية كبيرة تعادل ما لا يقل عن روايتين بذات الصراع، إن لم يكن أكثر، فعدد الصفحات تزيد على 500 صفحة، وهي روايةٌ حين نتعامل معها على كيفية الاشتغال، وكيفية اللعب على عناصر تدوين الرواية، نجد أنها تعتمد على أربع حركات:


الأولى: حركة الاستهلال التي تؤدّي إلى الإشارة الزمنية والمكانية، مثلما تؤدّي إلى الإشارة الحكائية.


الثانية: حركة اللغة التي تعطي مفعول التناغم ما بين الحدث وتراكمه من جهة، والصراع وتوسّعه من جهةٍ أخرى.


الثالثة: المناوبة في الفصول والتحرّك صوب التفاعل فيما بينها، عبر إيجاد موطئ قدمٍ للراوي أن يكون حاضرًا في التوضيح والتبويب.

الرابعة: محاولة جرّ الأحداث كلّها لتكون تحت يافطة الإهداء الخاص بالبيدق، حيث يشير إليه مباشرةً، وكأنه يخاطبه، وكما ذكرنا لا يعني البيدق الشطرنجي، لكنه إزاحةٌ على تحمُّله كلّ ما يحصل في هذا العالم الذي ينغمس في الكذب.


لكن الأثر الأكبر الذي سنتوجّه نحوه، هو اللغة التي لا تنغمس في الشاعرية والشعرية، ولا تبتعد عن السردية التي تحتاجها عملية إنتاج الرواية، فهي لغةٌ تجعل المتلقّي ربما يتلذّذ بالتوصيفات، وتساعده على متابعة هذه الرواية “الكبيرة”، فهي لا تقصّر في منح الرؤية الواضحة لحركة الشخصيات والمتن الحكائي، ولا تبتعد عن خاصية الملاحقة الروائية، من خلال تبنّي التوضيح في المبنى السردي. فاللغة هي التي تقود الأحداث، والأحداث هي التي تتعمّق بمسؤولية اللغة وتصادمها في بعض الأحيان، وتقاربها مع الواقع أحايين أخرى، ولذا نرى في الكثير من الجمل ما يمكن أن يكون حاكمًا على فعاليةٍ إنسانيةٍ أو حتى تحوّلها إلى حكمةٍ ليس لمفعول الغاية التي يبغيها الروائي على لسان إحدى الشخصيات، بل لوضعها موضع التفكير، حتى لو جاءت على شكل حوارٍ، ليربطها بلسان الشخصية، لا برَوي الراوي:


“أنا لا أكرهك يا آدم، ولكنك نسيت أنني ما زلت أجلس في المكان الذي كنت بين يدي الله فيه، فاحترِم ذلك، ولا تجعلني أخجل من الله أكثر!”، ص19.


إن تشعب الدهشة الروائية يعطي تشعبًا للأحداث والعكس صحيح، فالجملة السردية في الرواية رغم طول الرواية، فهي تشبه ضرباتٍ شارحة، تريد ملاحقة الحدث، مثلما تلاحق الزمن بصراعاته، بكلّ ما يميّز الصراع من وجود الحب والخيبة واليأس والخسارة والبحث عن الربح والمؤجَّل دومًا، وهي خصيصة أحدثت نقلةً نوعيةً في الرواية العربية بعد المتغيرات التي شهدتها المنطقة، فيما سُمِّيَ بالربيع العربي، والتحوّل من النصّ الخائف، إلى النصّ الغاضب، كما أوضحنا ذلك في كتابنا “الأدب الغاضب وتحولات النص”، والتي تحاول مثل هذه الروايات أن تكون معادلًا موضوعيًّا لتفكير الفرد العربي (الجديد) وكأنه يريد الانعتاق من ربلة التجسّس على ذاته، والتخلّص من خاصية اللوم، وكذلك من قبضة الخوف وانتظار النهاية التي يريمها القدر أو الواقع بشقَّيه السياسي والاقتصادي.

⦁ اللغة والمستويات السردية:

إن النتيجة هي أن اللغة تلاحق المتعارضات والمتناقضات، التي تنبني عليها ثيمة الصراع والفعل الدرامي، ولذا فإنها تقود المستويات السردية إلى التخاطب فيما بينها، فهي تلاحق الشخصيات في حركةٍ تؤدَّى من قِبل الراوي، وتلاحقهم من خلال حواراتهم التي لا تخرج من دهشة اللغة، وتبضّعها المستمر من سوق الشعرية. فالأب والعائلة والحب والمحاكمة وقاعة المحكمة والشخصيات الأخرى كـ”آمنة” و”هنية” وغيرها، كلّها أدت إلى تراكمية الأحداث، مثلما أدّت إلى تشعّبها، وسواء كانت الرواية طويلةً أم قصيرةً، فإنها رواية اللغة التي تبقي الباب مفتوحًا للدخول دون الشعور بالملل.
لذا نلاحظ أن اللغة قد أخذت المستويات تحت إبطها واعتمدت عليها في الإنتاج السردي:


أولًا: المستوى الإخباري، الذي لا يبرز كثيرًا كما في الروايات الأخرى، من أجل إعطاء الفرصة للمتلقّي أن يفكّر معه في تركيب الصورة التي تمنحها اللغة:


“جر جسده نحوها محتضنًا يده باليد الأخرى، وراح يهز ذراعيه في حركة طريفة منه جعلتها تبتسم من جديد رغم دموعها، ثم مد يده في جيبه، وأخرج ظرفًا مغلقًا، ناولها إياه، فهزت رأسها مستفسرة”، ص20.


ثانيًا: المستوى التحليلي، الذي يزاحم المستويات الأخرى، ويكون موجودًا مع أيّ مستوى، ليس بالصورة الزاهرة الكلية، بل حتى في الصورة الغائبة عن الحضور، كون الروائي معنيًّا بتحليل الشخصيات، وتحليل النتائج التي وصلت إليها الأحداث، لذا يكون هو المتسيِّد في إعلاء الخاصية السردية:


“ولأجل طرد هذا الشيطان من رأسي تيممت بالنظر إلى الرجل، وكشفت عن أذنيَّ الغطاء لتسمعا ما يقوله الحاج بوضوح بعد أن حجبت عنهما السمع أوهامي، ولما وصلنا إلى جامع الأزهر ابتسم قاسم وقد رأيت في عينيه نظرة فخر غير عادية”، ص96.


ثالثًا: المستوى التصويري، وهو المستوى الذي يعانق المستوى الإخباري، والمسؤول عن تفاعل الحركة للشخصية بإدارة الراوي، والمسؤول عن منح المشهد السردي بمتنه الحكائي ومبناه السردي قوام الوجود، بما يوحي إلى لذّة المعنى:
“انزلقت بصعوبة بالية إلى منحدر العنب، لمحت عوض من بعيد يجلس أمام غرفته بجانب ناره الموقدة، شددت من قامتي قدر المستطاع متجاهلًا هياج عظام ظهري”، ص344.


رابعًا: المستوى القصدي، وهو المستوى الذي ينبت كلّما كان هناك رأيٌ في الأحوال لهذه الشخصية أو تلك، فيكون عبارة عن دمج الرؤية التي يبتغيها الروائي، والرؤية التي يبحث عنها المتلقّي، وهو مستوى لا يكون غامضًا ولا يكون واضحًا، لكنه يبرز من خلال وجوده مع المستويات الأخرى، خاصة المستويَين التصويري والإخباري:


“ساقتني قدماي إلى منزل صالح بعدما نظرت في ساعتي، فوجدت عقاربها السامة تتحرك ببطء وقد ابتلعت من الوقت عشرين دقيقة من عمر الثامنة”، ص 114.


خامسًا: المستوى الفلسفي، الذي يأتي على شكل سؤالٍ يبثّه الراوي أو إحدى الشخصيات، بهدف منح الرواية بُعدها الفكري الذي يحصل بين الجملة الروائية والمتلقّي الذي يتحصله من هذا البُعد، وبالتالي البحث عن إجابةٍ لهذا السؤال من قِبل المتلقّي، أو من قِبل الشخصية:


“في تلك اللحظة كانت صفاء قد وضعت الصينية بجانب السرير ونامت على صدري، فأفزعها نهوضي فجأةً، يبدو أنها كانت منتشية أو شاردة، لا أدري، هرولت نحو الباب، فاستوقفتني متسائلة: “إلى أين؟””، ص 390.


سادسًا: المستوى التأويلي، وهو المستوى الذي يكون مخاتلًا في كلّ حركةٍ أو متنٍ يختصّ بالفكرة، أو بالشخصية التي توجد في الحكاية. وهو الكأس التي يريدها المنتج/الروائي، مترعةً بالغاية التي يبحث عنها المتلقّي، دون الحصول على مللٍ من تتابعها، وهو أيضًا مرتبطٌ بغرائبية الصورة التي تُعالَج بطريقة اللغة:


“أطلق مسعود من أعماقه تنهيدة ثقيلة، قبل أن يضع يديه أسفل الجثمان ليقوم به، تحرك صوب فتحة القبر ببطء شديد، سرح بصره إلى أسفل، فالتهمته العتمة، عاد يرمق الجثمان طويلًا، دمعة حارة فرت من عينيه سهوًا، فاستقرت فوق الرأس المُكفَّن، أصابه الهلع حين شاهدها تخترق القماش الأبيض”، ص506.


رواية “بيادق ونيشان”، هي الرواية التي تبحث عن متلقٍّ يجيد “نيشان” التهديف، مثلما يجيد اللعب مع البيدق في تبويب مفاعيل اللغة والإمساك بغرائبية الوصف، لأنها -أيّ الرواية- تنتمي إلى الأدب الغاضب الذي يحتاج إلى قوّة فعلٍ أخرى، حتى لو كانت عبر لغةٍ تمتلك قوّة التعبير.

شاهد أيضاً

7 شهداء ومصابون بمجزرة إسرائيلية جديدة وسط جباليا

شفا – استشهد مواطنون مدنيون، وأصيب آخرون، مساء اليوم السبت، في مجزرة إسرائيلية جديدة ضد …